“إنفصال كاليفورنيا Calexit”: بين الطموح وتحديات الواقع

د. محمد حسن سعد / شبكة جبل عامل الإعلامية

 

تُعد فكرة إنفصال ولاية كاليفورنيا عن الولايات المتحدة الأمريكية، والتي يُشار إليها اصطلاحاً بـ “Calexit”، من أكثر الموضوعات إثارةً للجدل في الساحة السياسية الأمريكية، إذ تعكس هذه الفكرة تفاعلاً معقداً بين العوامل السياسية، الإقتصادية، والإجتماعية التي تُميز ولاية كاليفورنيا عن بقية الولايات الأمريكية. وتتمتع كاليفورنيا بإقتصاد قوي وثقافة ليبرالية متقدمة، ما يجعلها في كثير من الأحيان تتخذ مواقف تختلف عن التوجهات الفيدرالية، خاصةً فيما يتعلق بالسياسات البيئية، الهجرة، والحقوق المدنية.

تتزامن هذه الديناميكيات مع تاريخ طويل من الحركات الإنفصالية في العالم، حيث يثير إنفصال أي إقليم أو ولاية تساؤلات قانونية ودستورية معقدة حول “حقوق الشعوب في تقرير مصيرها” وحدود السلطة الفيدرالية.

أولًا: الإطار الدستوري والقانوني للانفصال في الولايات المتحدة

تستند العلاقة بين الولايات والحكومة الفيدرالية إلى الدستور الأمريكي، الذي لا يتضمن نصوصاً صريحة تتيح للولايات الحق في الإنفصال، بل على العكس، فإن المقدمة (Preamble) للدستور تؤكد على تشكيل “إتحاد أكثر كمالاً ” (a more perfect Union)، مما يشير إلى طبيعة الإتحاد الدائمة وغير القابلة للإنفصام. بالإضافة إلى ذلك، فإن المادة الرابعة من الدستور تنص على أن الدستور والقوانين الفيدرالية هي “القانون الأعلى للبلاد (Supreme Law of the Land)”، مما يعزز فكرة أن الإتحاد هو كيان دائم وملزم لجميع الولايات.

ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أحد أهم السوابق القضائية التي تناولت مسألة الإنفصال، وهو قرار المحكمة العليا الأمريكية في قضية تكساس ضد وايت (1869)، إذ قضت المحكمة بأن الإنفصال غير دستوري، وأن الإتحاد بين الولايات هو “دائم وغير قابل للإنفصام”(perpetual and indissoluble) ، بمعنى أوضح ان الإتحاد بين الولايات “دائم ولا يمكن حله إلا عبر الثورة أو بموافقة مشتركة من الولايات الأخرى”، من هنا يتجلى هذا الحكم في فهم أن الولايات المتحدة ليست مجرد إتحاد طوعي يمكن تفكيكه بإرادة طرف واحد، بل هي كيان سياسي موحد بقوة القانون والدستور، ويعزز هذا الفهم مبدأ السيادة الفيدرالية، حيث تُمنح الولايات صلاحيات واسعة في إدارة شؤونها الداخلية، ولكن ضمن إطار دستوري يحافظ على وحدة البلاد. وقد جاء هذا القرار في أعقاب الحرب الأهلية الأمريكية (1861 ـــ 1865)، التي دارت حول محاولة الولايات الجنوبية الإنفصال عن الإتحاد، وهذا القرار باعتقادنا يُعتبر مرجعاً قانونياً أساسياً في تحديد موقف القانون الأمريكي من قضايا الإنفصال.

وفي السياق ذاته، يعتمد مؤيدو إنفصال كاليفورنيا على تفسير مغاير، مستشهدين بمبدأ تقرير المصير الذي ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة، والذي يعتبر أن للشعوب الحق في تحديد وتقرير مصيرها السياسي، إلا أن هذا المبدأ عادةً ما يُطبق في سياقات الإستعمار أو الإحتلال العسكري، وهو ما لا ينطبق على كاليفورنيا، ويجادل بعض الفقهاء الدستوريين والقانونيين بأن تطبيق هذا المبدأ على ولاية داخل دولة ديمقراطية مستقرة مثل الولايات المتحدة يُعد سابقة قانونية غير مدعومة بالأعراف الدولية.

علاوة على ذلك، لا بد ان نشير إلى أن الدستور الأمريكي يترك مجالاً للتفسير فيما يتعلق بحقوق الولايات، لكن هذا لا يعني ضمنياً الإعتراف بحق الإنفصال، بل إن التاريخ الأمريكي وخاصة في ما يتعلق بالحرب الأهلية، أثبت أن أي محاولة للإنفصال تُقابل برد حاسم من الحكومة الفيدرالية للحفاظ على وحدة الإتحاد.

ثانياً: الخطوات القانونية والإجرائية نحو الإنفصال

في نهاية كانون الثاني/يناير 2025 أعلنت وزيرة الخارجية في ولاية كاليفورنيا شيرلي ويبر أنه يتعين على منظمي حملة الإنفصال جمع ما لا يقل عن 546,651 توقيعاً، أي ما يعادل 5% من إجمالي الأصوات التي تم الإدلاء بها في الإنتخابات العامة الأخيرة، لعرض المبادرة على الإقتراع إذا نجحت هذه الخطوة، حينها سيُتاح لسكان كاليفورنيا التصويت على تعديل دستوري يسمح بإجراء إستفتاء على الإنفصال. ومع ذلك حتى إذا وافق الناخبون على الإستفتاء، فإن المسار القانوني للإنفصال يتطلب موافقة الكونغرس الأمريكي، وهو أمر غير مرجح بالنظر إلى الأثر السياسي والإقتصادي الكبير لانفصال خامس أكبر إقتصاد في العالم، إضافةً إلى ذلك، سيحتاج الأمر إلى تعديل الدستور الأمريكي، وهو ما يتطلب موافقة ثلثي أعضاء الكونغرس وثلاثة أرباع الولايات، وهو أمر يكاد يكون مستحيلاً في ظل النظام الفيدرالي الحالي.

 

 

 

 

ثالثاً: التحديات الدستوية والسياسية والإقتصادية والقانونية للإنفصال

تعترض مسالة الإنفصال جملة من التحديات نوجزها بما يلي:

1 ـــ التحديات الدستورية: كما تم الإشارة إليه، لا يوجد نص دستوري يسمح بانفصال الولايات، وعليه فان أي محاولة للإنفصال قد تُعتبر انتهاكاً للدستور وتؤدي إلى صراع قانوني طويل الأمد مع الحكومة الفيدرالية، سيخلف حتماً تداعيات كبرى تحفر عميقاً في الإتحاد الأمريكي.

2 ـــ التحديات السياسية: إنفصال ولاية كاليفورنيا سيؤدي إلى تغيير جذري في ميزان القوى السياسي في الولايات المتحدة، باعتبارها ولاية كبيرة ومعقلاً رئيسياً للحزب الديمقراطي، وبالتالي فإن فقدانها من الإتحاد سيؤثر بشكل كبير على التوازن السياسي في البلاد، وباغتقادنا فان الغالبية في الحزبين الديمقراطي والجمهوري لن تقبل بسهولة بهذه الخسارة نظراً لما تمثله الولاية من ثقل سياسي وإقتصادي على الإتحاد الأمريكي، بالإضافة إلى ذلك ستثير هذه القضية إنقسامات سياسية داخل الولايات المتحدة، ستزيد حتماً من تفاقم الإنقسام الداخلي التي بات يثقل كاهل الولايات المتحدة.

3 ـــ التحديات الإقتصادية: تعتبر كاليفورنيا خامس أكبر إقتصاد في العالم، ولها دور محوري في العديد من القطاعات الإقتصادية، مثل التكنولوجيا والترفيه والزراعة، وإنفصالها يعني قطع إرتباطاتها الإقتصادية العميقة مع باقي الولايات المتحدة، مما يؤدي إلى إضطرابات إقتصادية كبيرة، وستتأثر الأسواق العالمية أيضاً لأن الإقتصاد الأمريكي سيكون فقد جزءاً حيوياً من قوته الإقتصادية، فضلاً عن أن الشركات الكبرى التي تعمل في كاليفورنيا قد تتعرض لتحديات من حيث التعامل مع قوانين وضرائب جديدة، وهذا قد يؤدي إلى تراجع الإستثمارات أو حتى هجرة الشركات إلى أماكن أكثر إستقراراً.

4 ـــ التحديات القانونية الداخلية: تواجه مسألة الإنفصال تباينات في الرأي داخل ولاية كاليفورنيا، فبينما قد يدعم البعض في المناطق الحضرية هذا المطلب، فإن العديد من المناطق الريفية والمناطق المحافظة قد تعارضه، وبالتالي هذه الفجوة في الرأي بين المدن الكبرى والأرياف قد تؤدي إلى صراعات قانونية وسياسية داخل الولاية نفسها، فمثل هذا الإنقسام الداخلي قد يصعب من عملية الإنفصال إذا لم يكن هناك توافق داخلي على هذه المسألة.

 

رابعاً: مقارنة بحالات إنفصال سابقة عالمياً

ان التدقيق والدراسة الجادتين لمحاولات الإنفصال في دول أخرى، مثل إستفتاء إسكتلندا للإستقلال عن المملكة المتحدة (بريطانيا) أو أزمة كتالونيا في إسبانيا، توصلنا إلى نتيجة مفادها أن النجاح في تحقيق الإنفصال يعتمد على السياقات الدستورية والسياسية الخاصة بكل دولة، ففي حالة الولايات المتحدة، الطبيعة الفيدرالية الصارمة للدستور الأمريكي تجعل من إنفصال ولاية مثل كاليفورنيا أكثر تعقيداً مقارنة بحالات أخرى.

خامساً: الأهمية السياسية والإجتماعية لموضوع الإنفصال

تنبع أهمية مناقشة إنفصال كاليفورنيا من تأثيراته التي تتجاوز الجوانب القانونية والدستورية لتشمل جوانب إجتماعية وثقافية عميقة، فكاليفورنيا ولاية ذات طابع ليبرالي، تتمتع بإقتصاد قوي وتركيبة سكانية متنوعة، في حين أن الولايات في الداخل الأمريكي، مثل تكساس وأجزاء من الجنوب، تُعتبر أكثر محافظة، هذا الاختلاف الكبير في القيم والسياسات يعكس إنقساماً ثقافياً واضحاً بين الساحل الغربي (الذي يميل إلى السياسات التقدمية) وبقية الولايات التي تفضل السياسات المحافظة.

هذا الإنقسام يتجسد أيضاً في التوترات بين الحكومة الفيدرالية والحكومات المحلية، فالعديد من الولايات مثل كاليفورنيا، تشعر بأن الحكومة الفيدرالية تفرض عليها سياسات قد لا تتماشى مع احتياجاتها الخاصة أو قيمها، لذلك قد يظهر في بعض الأحيان رغبة في الحصول على مزيد من الإستقلالية من أجل إتخاذ قرارات تتناسب مع واقعها المحلي في مجالات مثل الإقتصاد، السياسات الضريبية، التعليم، حماية البيئة، الهجرة، وحقوق المثليين، والحقوق المدنية.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يعكس هذا الإنفصال الرغبة في إعادة تشكيل النظام الفيدرالي نفسه، بحيث يحصل كل كيان على مزيد من الحرية في تحديد أولوياته من دون تدخل خارجي، فهذه الديناميكيات السياسية والإجتماعية تجعل من موضوع إنفصال كاليفورنيا أكثر تعقيداً، حيث يتداخل مع قضايا الهوية السياسية والإجتماعية للولايات المتحدة ككل.

سادساً: السيناريوهات المستقبلية المحتملة

1 ـــ تعزيز الحكم الذاتي: قد تسعى كاليفورنيا وبدلاً من السعي للإنفصال، لتعزيز صلاحياتها ضمن الإطار الفيدرالي الحالي، من خلال زيادة إستقلاليتها في صياغة السياسات الإقتصادية والبيئية والإجتماعية.

2 ــــ تغيرات في النظام الفيدرالي: يمكن أن تؤدي النقاشات المستمرة حول الإنفصال إلى إصلاحات دستورية تعزز من مرونة العلاقة بين الولايات والحكومة الفيدرالية، بما يتيح مزيداً من الإستقلالية للولايات دون الحاجة إلى الإنفصال.

3 ـــ تصاعد الدعوات الإنفصالية: أن تصاعد حدة التوترات السياسية والإقتصادية، ستزايد من وتيرة الدعوات الإنفصالية داخل الولايات المتحدة، ما سيؤدي إلى ضغوط متزايدة على النظام الفيدرالي.

4 ـــ الحفاظ على الوضع القائم: قد يظل الوضع القائم مستمراً رغم التحديات المختلفة، حيث تظل كاليفورنيا جزءاً من الولايات المتحدة، مع استمرار النقاشات حول تعزيز إستقلاليتها.

وبناء على ما تقدم يمكن القول، أن مسالة إنفصال كاليفورنيا عن الولايات المتحدة فكرة مثيرة للجدل وتعبيراً عن الإستياء السياسي لبعض سكان الولاية، وستظل فكرة غير واقعية لأن العقبات القانونية والدستورية تجعل تحقيق “Calexit” أمراً بعيد المنال في المستقبل القريب، فالدستور الأمريكي هو وثيقة حية قابلة للتفسير والتعديل، لكنها أيضاً تعكس التزاماً قوياً بوحدة الإتحاد، ومع ذلك فإن مناقشة هذه الفكرة تفتح الباب أمام تساؤلات أوسع حول مستقبل الفيدرالية الأمريكية، ودور الولايات في تحديد مصيرها في ظل نظام سياسي مركزي تتزايد فيه التوترات السياسية والإجتماعية والثقافية.