| خضر رسلان | كاتب وإعلامي لبناني
من يتابع مسار الأحداث في منطقتنا خلال العقود الأخيرة، يدرك أن المقاومة لم تعد خياراً عاطفياً أو ترفاً سياسياً، بل صارت حاجة ملحّة للأمن القومي العربي. فالانكفاء عن نهج المقاومة يفتح الباب واسعاً أمام إسرائيل لاستباحة المنطقة، ويحوّل الأنظمة العربية إلى هياكل عاجزة، لا وظيفة لها سوى حماية مصالح الآخرين. والأسوأ أن تل أبيب قد تعتبر هذه الأنظمة نفسها عائقاً أمام مشروعها التوسعي، فتعمل على تجاوزها وربما تفكيكها بمجرد أن تنتهي الحاجة إليها.
السؤال الكبير المطروح اليوم: هل يمكن أن نشهد حياكة علاقة جديدة بين قوى المقاومة وبعض الأنظمة العربية التي طالما صُنّفت خصماً لها؟ المشهد الإقليمي يشي بإمكانات غير مسبوقة، إذ لم تعد المقاومة أسيرة عقدة “شكل النظام” أو “تركيبته”، بل تجاوزت هذه الاعتبارات، لتتبنى مقاربة مفادها أن حق الشعوب في اختيار أنماط الحكم والإدارة لا يتعارض مع مشروع التحرر. وهذا التحول يفتح الباب أمام مقاربة مختلفة مع دول محورية مثل سوريا والسعودية ومصر والأردن، على قاعدة هدف مشترك: حماية بنية هذه الدول ومجتمعاتها من الانهيار أمام المشروع الإسرائيلي.
المشروع الإسرائيلي ليس مجرد احتلال أرض، بل يستهدف تدمير البنى الفكرية والعقائدية والثقافية للشعوب العربية. وهنا تلتقي مصالح المقاومة مع الأنظمة، حتى ولو كان بينها تنافر أو خصومات أو حسابات متضاربة. ففي النهاية، ما تريده إسرائيل هو تفكيك الأمة من الداخل، وتحويل دولها إلى كيانات هشة تتعايش مع “إسرائيل الكبرى” بوصفها القوة المركزية الوحيدة في المنطقة.
الهواجس المصرية، على سبيل المثال، ليست بعيدة عن هذا السياق. فالقاهرة تدرك أن أي تغيير استراتيجي في هوية المنطقة سيصيبها في الصميم، سواء عبر تهديد أمنها المائي في النيل، أو عبر الضغط على حدودها مع فلسطين وليبيا والسودان. والمفارقة أن هذه الهواجس تكاد تتطابق مع مخاوف سائر الدول العربية، من الخليج إلى بلاد الشام والمغرب العربي، حيث الخطر الإسرائيلي يتمدد بلبوس التطبيع حيناً، وبالمشروع الاستيطاني أو التوسعي حيناً آخر.
من هنا، فإن إعادة صياغة العلاقات العربية ـ العربية، على قاعدة التقاطع مع مشروع المقاومة، لم تعد مجرد ترف فكري أو طموح رومانسي. بل هي خيار وجودي يفرضه منطق المصالح، ويفرضه أيضاً إدراك الجميع أن لا نظام ولا دولة في مأمن إذا استُكمل مشروع “إسرائيل الكبرى”. لذلك، فإن تشبيك العُرى بين مختلف القوى العربية، حتى تلك التي خاضت تناقضات وصراعات فيما بينها، يصبح ضرورة استراتيجية في سبيل الهدف الأسمى: الحفاظ على كيان الأمة المهددة بالخطر الكبير.
في النهاية، قد يختلف العرب على مروحة من القضايا والتوجهات، لكنهم يتفقون في العمق على أن لا أحد منهم سيكون بمنأى عن الزلزال إذا نجحت إسرائيل في فرض هيمنتها الكاملة. والمقاومة هنا لا تطرح نفسها بديلاً عن الأنظمة أو عن خيارات الشعوب، بل صمام أمان يحمي الجميع من الانهيار. إنها صرخة الواقع قبل أن تكون شعاراً: من دون المقاومة، لا أمن قومياً عربياً، ولا مستقبل للأمة.