علي خيرالله شريف / شبكة جبل عامل الإعلامية
رُبَّ ضارَّةٍ نافعة، وعند الامتحان يُكرَمُ المرءُ أو يُهان، وفي الملمات تُعرفُ الخامات. والرجال كالذهب لا يظهر معدنهم إلا عند الـمِحَك.
هناك العديد من الأمثال الشعبية اللبنانية وغير اللبنانية، التي يمكن لنا استحضارها لوصف المشاهد الرائعة في أماكن “نزوح” اللبنانيين على امتداد الوطن، برغم بعض الحالات الشاذة من المستغلِّين والجشعين، ومن الأبواق التحريضية الناعقة بالخراب والعنصرية، وبالتباعد والانعزال وبالدعوة إلى الشرذمة، نحن أمام مشهد وطني رائع من التضامن، في شتى أنحاء الوطن.
نقول “النزوح”، ولكن مستقبليهم يرفضون هذه التسمية ويُصِرُّون على مناداتِهِم بأهل الدار، وكان لي الشرف أن أكون من أوائل من أطلقوا هذا الشعار. وفعلاً هكذا هو واقع الحال. ها هم أكثرية اللبنانيين يتسابقون لاستقبال أخوتهم في الوطن، وتكريمهم وتقديم العون لهم، في مشهدٍ نموذجي مركَّب لا يعيبُهُ إلا تقصير الدولة في هذا المصاب:
الجمعيات المحلية والوطنية تداعت إلى زيارة أماكن الإيواء، وتعداد الأفراد والعائلات، وإحصاء الاحتياجات، والمسارعة إلى تلبيتها بانتظام، وباستمرارٍ لا ينقطع، وتقديم الغذاء والطبابة والدواء والاستشفاء لهم. البلديات رعت الناس ونظمت وجودهم وقدمت لهم كل ما يمكنها من دعم وهم يعلمون أن أكثرية النازحين هم أهل عز ورفاهية وكلهم أهل تعفُّفٍ وإباء. مجموعاتٌ من الشباب، زارت المدارس والمراكز والمنازل وسألت عن الاحتياجات من التجهيزات، ثم جمعوا من بعضهم التبرعات وسارعوا إلى توفيرها ووضعها في تصرف “أصحاب الدار” الضيوف. التكافل الاجتماعي والتضامن الوطني اللذان نراهما في المناطق كافة، مسيحية كانت أو سنية أو درزية، يدل على جوهر الشعب اللبناني وحقيقته وأصالته وقِيَمِهِ السامية. كل من يستطيع المساعدة هَبَّ إليها، بالمال أو بالمواد أو بالجهد الجسدي.
وأكثر من كل ذلك وأجمل، هو سلوك هؤلاء الـمُضيفين مع الضيوف، وتوددهم إليهم، وما يُظهِرونه من تعاطف معهم، ويُعَبِّرون لهم عن أُخُوَّتِهِم لهم وحِرصِهِم عليهم. وهذا ينسف كل ما أطلقته بعض الأبواق من مصطلحات “ما بيشبهونا” و”ثقافة الموت”، وغيرها.
إن هذا المشهد يؤكد أن التفرقة ليست من صناعة الشعب اللبناني ولا من طبيعته وعاداته، بل هي من مصادر غريبة عنه ودخيلة عليه؛ تعددت مصادرها بعدد السفارات وبارتباطات بعض الزعامات وبعض رجال الدين العنصريين السابحين عكس الحقيقة.
لقد سَطَّرَ اللبنانيون المُحتَفون بالنازحين، أبلغ ملاحم الوحدة الوطنية، وهذا نوع آخر من مقاومة الاحتلال والعدوان، سيؤدي إلى إفشالِ كل مخططاته التي سهر على إنجازها وإنجاحِها لِسنواتٍ طويلة.
نحن لا نستبشر بالعدوان، ولكن العدوان الحالي، كما عدوان ٢٠٠٦، عَرَّفَ اللبنانيين على بعضهم أكثر، وأظهر أنهم من بيئةٍ واحدة، وأنهم كُلُّهُم يُحِبُّون الحياة ، وكُلُّهُم يشبهون بعضهم بالإلفة والمحبة والتكافل، ويُكِنُّون لبعضِهِم الـمَوَدَّة والاحترام والتقدير مهما اختلفت طوائفهم. أما بضعة الاختلافات الضئيلة، فهي على سبيل الاختلاف الذي يثري الوطن ويؤمن له التنوع والتكامل، وهو نفسه الذي قال عنه الإمام موسى الصدر “التعايش الإسلامي المسيحي ثروة يجب التمسك بها”.