علي خيرالله شريف / شبكة جبل عامل الإعلامية
إنه نصرٌ بعدِّةِ مقاييس، بالإيلام الذي نزل بالاحتلال لأول مرة في تاريخه، وبالانتصار على الضربات الهائلة التي وُجَّهَت للمقاومة، والتي لو حصلت لأعتى الدول لانهارت منذ الدقائق الأولى. هو نصرٌ بالبطولات التي سطرها الأبطال، في صور والنبطية والخيام ومارون الراس وعيتا وعيترون وعيناثا وبنت جبيل والطيبة وكل قرى الجنوب؛ كُلُّ القرى والمدن كانت قلاعاً شاهقة كالجبال، لم يستطع العدو النيل منها، بل مَزَّقت جحافله أشلاء وحطَّمَت دباباتِه تحطيماً.
للمرة الأولى في تاريخ الكيان تشتعل مدنه بهذا الشكل. وللمرة الأولى في تاريخه يُنهك جيشه إلى حافَّةِ الانهيار فيرفده الداعمون، بالمال والعتاد وبالمرتزقة من أكثر من عشرين دولة، بينها دُول عربية. وللمرة الأولى في تاريخه يتكبد هذه الأعداد الكبيرة من الخسائر البشرية والاقتصادية. وللمرة الأولى منذ تأسيسه يصاب الكيان بالهجرة العكسية حتى بلغت أكثر من خمسمئة ألف مهاجر إلى الخارج “ون واي تيكيت”، وبالنزوح الداخلي الذي بلغ مئات الآلاف من مستوطنات الجليل وكبريات المدن.
كان عاموس هوكستين يَمخُرُ جُموعَ المتهافتين على استقباله في كل زيارة، ببسمتِهِ الماكرة وشروطِهِ التعجيزية، يُملِيها علينا بقُبَّعَةٍ أميركية وقلبٍ صهيوني وجنسيةٍ صهيونية. وكلما تلقى الرفض كان يعود ليطلب من العدو زيادة ارتكاب المجازر فينا. وفي آخر مرةٍ أعلن قطع المفاوضات لمدة عشرة أيام. ولكنه فوجئ بإحراق تل أبيب وحيفا وعكا وصفد والجليل وغيرها من مدن الكيان، فهرول بدلاً عنه نائب وزير الدفاع الأميركي إلى بيروت يتوسل وقف النار. وبِسُرعَةِ الصوت اتُّخِذَ القرار وتحدَّدَ مَوعدُ التنفيذ في الساعة العاشرة من صباح الأربعاء 27 تشرين الثاني 2024 ثم تمَّ تقديمه إلى الرابعة من فجر اليوم نفسه لاستعجال العدو. هكذا غَيَّرَ رجالُ الله طموحات نتنياهو وداعميه.
إن العدو وافق مرغماً على اتفاق وقف النار. ولكن يجب ألا ننسى أن الاتفاق يحمل بعض النقاط التي لا تُطَمئِن، وتعطي المجال للعدو بخرقِهِ ساعة يشاء بعد أن يلتقط أنفاسه التي قطعها له المقاومون.
عندما ينص الاتفاق على حق الطرفين بالدفاع عن النفس، وبنفس الوقت عدم أحقية الم-قا-ومة اقتناء السلاح ونقله وإنتاجه واستعماله، فهذا يُقصَدُ منه تكبيل يد ال-مقا-ومة وإطلاق يد العدو. وعندما ينص على حصرية حمل السلاح بيد القوات الأمنية والعسكرية اللبنانية، فهذا لا يضر العدو بشيء ولا يدفع عن لبنان البلاء، لأننا جميعاً نعرف أن السلاح الموجود بيد القوى الأمنية والعسكرية، ضئيل وعديم الفعالية، وكلُّ بندقية منه مُرفقة بطريقة الاستعمال ووجهته، مكتوبة في السفارة الأميركية، ولا يُسمح لقوانا الأمنية الرسمية تجاوزها.
وأكثر من ذلك، تشرف على تنفيذ الاتفاق لجنة بزعامة أميركا وبعضوية فرنسا التابعة لأمريكا. أما نص الاتفاق على حق الطرفين اللبناني والصهيوني تبليغ اللجنة بأي اختراق للاتفاق من الطرف الآخر، فهذا شيءٌ مُضحِك، فمن ناحية يشهد التاريخ أن إسرائيل لا تعترف بلجان ولا بمنظمات دولية ولا بقانون دولي، ومن ناحية ثانية إن التابع والمتبوع في اللجنة هما شريكان لا يؤتمنان على شكوى ولا على إنصاف مظلوم. فماذا فعلت أميركا وفرنسا والأمم المتحدة، عندما اخترقت إسرائيل القرار 1701 وفق بعض المصادر، 22 ألف مرة منذ العام 2006.
أما الكلام عن نشر لبنان لقواته على الحدود، فبدايةً، الجيش اللبناني والقوى الأمنية اللبنانية، موجودة على الحدود بالأصل ووجودُها شرفٌ لنا وسند وعضد، ولكن المقصود بالبند الوارد في الاتفاق، الحدود الشرقية أكثر من الحدود الجنوبية، لقطع الاتصال نهائياً بين لبنان وسوريا، لمنع إمداد المقاومة أولاً ولتشديد الحصار الاقتصادي على سوريا ثانياً. ويُضاف هذا العمل إلى أبراج المراقبة البريطانية والأميركية(بمعنى آخر الصهيونية) الموجودة منذ عدة سنوات على الحدود الشرقية، ووجود الأساطيل في البحر، والأقمار الصناعية في الفضاء والجواسيس في الداخل اللبناني.
إن هدنة الستين يوماً هي هدنة هشة، وتعطي الفرصة للعدو ليستعيد قواه فيتمكن من استئناف قتلنا بعدها، وتعطيه الفرصة لكي يُنهي مهمته في تدمير غزة، وهو يعتبر نفسه قد كُفِيَ خطر إسناد غزة من قبل ح. الله. وقد نطق بذلك نتنياهو وبايدن في خطابَيهما. ولـمَّحت إليه السفيرة الأميركية. ولم ينسَ الأميركي أن يربط الاتفاق بترسيم الحدود البرية مع لبنان، وهي القضية التي كان لبنان الـ-مقا-ومة يرفض الغوص فيها وفق مزاج العدو(ولهذا الموضوع حديثٌ آخر).
يتضمَّنُ الاتفاق أفخاخاً وُضِعَت لمصلحة العدو، يستفيد منها على مزاجه ووفق حاجته، وبدعم من أميركا وفرنسا والدول الغربية والعربية المنخرطة في العدوان بأشكالة المختلفة. ويتجلَّى بما يفعله حالياً بعد وقف النار من إطلاق رصاص فوق رؤوس المواطنين، وبتحليق طيرانه العدواني المستمر في سماء الجنوب، وبالقصف المدفعي المتكرر على الخيام وبعض القرى، وما قد يفعله في المستقبل القريب والبعيد.
أما عن انتخاب رئيس الجمهورية، فإن العدو بدأ يتدخل في هذا الموضوع كما فعلها عام 1982، والقوى الغربية والعربية تتدخل بكل ما تستطيع من قوة، وهذا موضوع يمكن الخوض فيه في مقالٍ مستقل.
لقد رفع العدو شعار إنهاء ح. الله من الوجود، ولكنه فَشِل في ذلك، ورضخ لوقف النار مُرغَماً. لقد تم رفض بعض ما طلب إدراجَه في الاتفاق، ولكن رغم ذلك بقي الاتفاقُ مفخخاً وبقيَ الشيطان في التفاصيل. ولو لم يرضخ العدو لوقف النار لتكبد المزيد من الخسائر في قواته وضباطه وفي المرتزقة الذين زودوه بهم من أكثر من عشرين دولة، وفي بناه التحتية ومُدُنِه ومنشآته ومصانعه ومطاراته وقواعده العسكرية، وَلَتَكَبَّدَ المزيد من الهاربين من الكيان إلى أوروبا بمئات الألوف. النصر تحقق في الميدان وفي عودة النازحين منذ الدقيقة الأولى من فجر الأربعاء 27 تشرين الثاني 2024، يحملون الرايات الصفراء والعَلَمَ اللبناني، ويرددون أهازيج النصر. وهذا المشهد يعتبره العدو وأصدقاؤه في الداخل اللبناني، مشهداً يخالف طموحاتِهم ويُحبطُ مخططاتهم. وبالتالي يدفعهم إلى المزيد من الغطرسة والتآمر وإلى استغلال الأفخاخ الموجودة في بنود الاتفاق. والجدير الالتفات إليه هنا أن العدو لم يُعِد مستوطنيه إلى الشمال، وهذا قد يكون دليلاً على نِيَّتِهِ استئناف العدوان على لبنان في أي لحظة، فأبقى مستوطنيه بعيدين.