ترامب وعقيدة مونرو: مخاطر العودة للتدخلات الإمبريالية 

د. محمد حسن سعد / شبكة جبل عامل الإعلامية

 

في إطار تصورات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول إعادة تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية، برزت مواقفه المثيرة للجدل بشأن الهيمنة الإقليمية، حيث دعا ترامب إلى إعادة فرض السيطرة الأمريكية على القناة البانامية، ولو بالقوة إذا لزم الأمر، وأبدى اهتمامه بضم غرينلاند لأسباب تتعلق بالأمن القومي. هذه التصورات تعكس ميلاً واضحاً إلى إحياء عقيدة مونرو، التي تعتبر القارتين الأمريكيتين مجالاً حصرياً للنفوذ الأمريكي، وهو توجّه يحمل في طياته مخاطر كبيرة على النظام العالمي المتعدد الأطراف والقائم على القواعد الذي تدعي الولايات المتحدة رعايته وتتربع على عرش زعامته. هذه الرؤية ليست فقط تعبيراً عن طموح الهيمنة، بل تكشف عن قلق متزايد من تعميق العلاقات الإقتصادية والدبلوماسية للقوى العالمية الأخرى، وخاصة الصين وروسيا، في نصف الكرة الغربي. هذه التحولات تثير تساؤلات حول مستقبل النظام العالمي في ظل سياسات أحادية الجانب باتت نهجاً ملازماً للسياسة الخارجية الأمريكية لعقود طويلة.

أولا ــــ جذور عقيدة مونرو: بين الدرع والسيف

شكلت عقيدة مونرو على مدى القرنين الثامن والتاسع عشر مثلت حجر الزاوية في السياسة الخارجية الأمريكية، وتعود التسمية إلى الرئيس الأمريكي جيمس مونرو (1817-1825) الذي كان قد تبنى سياسة معارضة للاستعمار الأوروبي في نصف الكرة الأرضية الغربي، وتحولت هذه العقيدة إلى أداة للتوسع الإمبريالي الأمريكي، والتي يمكن ايجازها على الشكل التالي:

1 ـــ ظهور العقيدة ومبادئها الأولى

ظهرت عقيدة مونرو لأول مرة عام 1823، وسط مخاوف أمريكية من تدخل القوى الأوروبية في شؤون أمريكا اللاتينية بعد موجة الثورات ضد الاستعمار الإسباني، حيث وضع الرئيس جيمس مونرو آنذاك الأساس لما سُمّي بـ”النظام الأمريكي” والذي يعرف بمبدأ مونرو، الذي يمنع القوى الأوروبية من التدخل في شؤون نصف الكرة الغربي، واعتبرت الولايات المتحدة أي محاولة من قبل أوروبا لبسط نفوذها تهديداً لأمنها وسلامها.

 

 

2 ـــ توسع الدور الأمريكي

مع ازدياد قوة الولايات المتحدة، تطورت العقيدة من دورها كدرع دفاعي إلى أداة هجومية، ففي عام 1845، استخدم الرئيس جيمس بولك هذه العقيدة لتبرير ضم تكساس وتوسيع الحدود الأمريكية، بحجة “القدر المتجلي” الذي يبرر التوسع الأمريكي كحق طبيعي. بعد ذلك بعام، استندت الإدارة الأمريكية إلى العقيدة ذاتها في حربها مع المكسيك التي انتهت بضم كاليفورنيا وجنوب غرب الولايات المتحدة، كما استُخدمت العقيدة لتبرير شراء ألاسكا عام 1867، وهي خطوة عززت النفوذ الأمريكي في القارة الشمالية وأتاحت الوصول إلى الموارد الطبيعية الغنية للمنطقة.

3 ـــ الهيمنة الإقليمية

في تسعينيات القرن التاسع عشر، أصبحت العقيدة تعبيراً عن الهيمنة الكاملة على نصف الكرة الغربي، وفي عام 1895، تدخّل الرئيس غروفر كليفلاند في نزاع حدودي بين فنزويلا وغويانا البريطانية، مؤكداً سيادة الولايات المتحدة في القارة، مما وضع سابقة للتدخل الدبلوماسي المباشر في النزاعات الإقليمية. تلا ذلك الحرب مع إسبانيا عام 1898، التي أسفرت عن حصول الولايات المتحدة على بورتوريكو وتحول كوبا إلى محمية أمريكية، كما ضمن تدخل الرئيس ثيودور روزفلت إستقلال بنما عن كولومبيا عام 1903 لتأمين بناء القناة البانامية، وهو مشروع اعتُبر حاسماً للهيمنة الإقتصادية والعسكرية الأمريكية، ولاحقاً أضيفت “السياسة التكميلية” لروزفلت، التي أكدت حق الولايات المتحدة في التدخل العسكري لحماية مصالحها في أمريكا اللاتينية.

ثانياً ــــ التغيرات في النظام العالمي

شهد مطلع القرن العشرين تحولات كبرى في السياسة الخارجية الأمريكية، وظهر ذلك من خلال ما يلي:

1 ـــ التحول إلى سياسات التعاون

على الرغم من أن عقيدة مونرو كانت تُعتبر ركيزة للسياسة الخارجية الأمريكية خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، إلا أن الأسس التي قامت عليها بدأت تتغير مع صعود القوى العالمية الأخرى والتحولات الإقتصادية والسياسية، ففي ثلاثينيات القرن الماضي، ومع انتخاب فرانكلين روزفلت تبنت الولايات المتحدة سياسة “الجوار الحسن” التي ركزت على التعاون بدلاً من التدخل، هذه السياسة مثّلت تحولاً في التفكير الأمريكي تجاه نصف الكرة الغربي، حيث سعت إلى بناء شراكات بدلاً من فرض السيطرة.

2 ـــ ظهور التعددية الدولية

مع نهاية الحرب العالمية الثانية، كان العالم على أعتاب نظام دولي جديد، وظهر ذلك في قبول الرئيس روزفلت بقيام نظام عالمي قائم على التعاون متعدد الأطراف من خلال إنشاء الأمم المتحدة، بهدف تعزيز السلام والاستقرار العالميين. ورغم ذلك، فقد أُجبر على الاعتراف بمناطق نفوذ القوى العظمى الأخرى، مثل الاتحاد السوفياتي في أوروبا الشرقية. هذا التناقض بين المبادئ المعلنة والواقع السياسي استمر طوال فترة الحرب الباردة، حيث عادت الولايات المتحدة لتأكيد نفوذها في أمريكا اللاتينية من خلال تدخلات متكررة، كما حدث في غواتيمالا وجمهورية الدومينيكان وتشيلي، وكانت هذه التدخلات تهدف إلى محاربة الشيوعية وضمان الهيمنة الأمريكية على المنطقة، لكنها في الوقت ذاته أثارت استياء الشعوب المحلية وأدت إلى تفاقم الصراعات الداخلية. بالتوازي مع ذلك عملت الولايات المتحدة على بسط سيطرتها على الصعيد الإقتصادي، فاعتمدت على مؤسسات مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لتعزيز مصالحها الإقتصادية في العالم، مما أدى إلى نشوء تبعية إقتصادية عميقة عانت منها الدول كثيراً.

ثالثا ـــ مخاطر العودة إلى عقيدة مونرو

مع عودة الرئيس ترامب إلى البيت الابيض يبدو واضحاً من خلال مواقفه حيال بنما وغرينلاند انه يعمل للعودة إلى قاعدة ومبدأ مونرو، هذا العودة تطرح جملة من المخاطر يمكن اجمالها بما يلي:

1 ـــ التوسع الصيني والروسي

يشكل اصرار الرئيس ترامب بضرورة تخلى الدنمارك عن جزيرة غرينلاند والتي تبلغ مساحتها ثلاثة أضعاف مساحة تكساس، أحياء لعقيدة مونرو وعودة إليها كوسيلة لإعادة تأكيد الهيمنة الأمريكية في نصف الكرة الغربي ومواجهة التوسع الصيني والروسي، فالصين على سبيل المثال، عززت وجودها الإقتصادي والدبلوماسي في أمريكا اللاتينية من خلال استثمارات ضخمة ومشاريع بنية تحتية، بما في ذلك مبادرة الحزام والطريق. هذه الاستثمارات لم تكن مجرد تحركات إقتصادية، بل إستراتيجية دبلوماسية تهدف إلى تعزيز النفوذ الصيني في منطقة تعتبرها الولايات المتحدة تقليدياً مجال نفوذها الحصري.

روسيا من جهتها باتت حاضرة في هذا المنطقة الحيوية للولايات المتحدة من خلال العلاقات الدبلوماسية والإقتصادية مع دول أمريكا اللاتينية، التي رفضت اغلب حكوماتها الاذعان للضغوط الأمريكية لإدانة روسيا في الأمم المتحدة وفي محافل دولية أخرى على خلفية الحرب الدائرة في أوكرانيا، وهو ما يراه ترامب والنخبة الحاكمة في واشنطن بانه تمرد يجب التعامل معه بحزم، وقد تكون البداية من بنما وقناتها لتمتد إلى جغرافيا أمريكا اللأتنية لإعادة هندستها وفق المعايير الأمريكية التي تعكس في بعض جوانبها عمليات الشراء الإقليمية التي نفذتها الولايات المتحدة في القرون السابقة والتي تعرضت لانتقادات شديدة في ذلك الوقت ولكنها اعتبرت فيما بعد صفقات هائلة، وكان أبرزها الاستحواذ على إقليم لويزيانا من فرنسا في عام 1803 مقابل 15 مليون دولار، وألاسكا من روسيا في عام 1867 مقابل 7.2 مليون دولار. وللعلم ليس ترامب أول رئيس يضع نصب عينيه السيطرة على غرينلاند، فقد فكر الرئيس أندرو جونسون في الاستحواذ عليها في عام 1867، وعرض الرئيس هاري ترومان على الدنمارك 100 مليون دولار من الذهب في مقابلها في عام 1946.

2 ـــ العواقب الدولية والمحلية

تجاهلت الولايات المتحدة أمريكا اللاتنية لفترة طويلة، متبعةً سياسة “الإهمال الحميد”، هذا التباين خلق فراغاً استغلته الصين وروسيا لتعزيز نفوذهما، ومع ذلك فإن العودة إلى إحياء عقيدة مونرو لن يؤدي فقط إلى تنفير دول أمريكا اللاتينية وتحفيز النزعة القومية المناهضة للولايات المتحدة، بل سيُشجّع أيضاً كل من بكين وموسكو الصين على تعزيز مناطق نفوذهما الخاصة، وبالفعل تشير الصين إلى نفوذها في بحر الصين الجنوبي باعتباره معادلاً للهيمنة الأمريكية في البحر الكاريبي خلال القرن العشرين، كما أن روسيا قد تسعى لاستغلال هذا التوجه لتبرير عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا ومناطق أخرى في “الخارج القريب”.

3 ـــ تحديات النظام العالمي

إن العودة إلى هذه عقيدة مونرو قد تُعرّض الولايات المتحدة لعزلة دولية، حيث تسعى دول العالم بشكل متزايد إلى التعددية وتعزيز التعاون الإقليمي، فإصرار الولايات المتحدة على الهيمنة الإقليمية سيقوّض سمعتها كداعم للنظام العالمي القائم على القواعد والقانون كما تقول وتدعي دائماً، إلى جانب ذلك هناك مخاطر إقتصادية محتملة فالتوجه نحو سياسات الهيمنة قد يؤدي إلى تعطيل العلاقات التجارية مع شركاء رئيسيين في أمريكا اللاتينية، التي تسعى دول عديدة فيها للانفكاك والتحرر من الهيمنة الأمريكية.

رابعاً ـــ بدائل أكثر حكمة

تزايدت في العقود الماضية نزعة الإدارات الأمريكية المختلفة نحو الهيمنة العالمية، التي كلفت الولايات المتحدة الكثير على المستويين السياسي والإقتصادي، وبات واضحاً من تفحص الوضعين الداخلي والخارجي للولايات المتحدة الحاجة إلى بدائل أكثر حكمة على مستوى السياسة الخارجية، وهي تختصر بما يلي:

1 ـــ تعزيز التعاون الإقليمي

يجب على الولايات المتحدة بدلاً من العودة إلى سياسات التدخل والسيطرة، التركيز على تعزيز التعاون الإقتصادي والدبلوماسي في نصف الكرة الغربي، ويمكن تحقيق ذلك من خلال دعم المؤسسات الإقليمية التي تعزز احترام السيادة والعمل الجماعي بما يتماشى مع ميثاق الأمم المتحدة، فعلى سبيل المثال يمكن تعزيز دور منظمة الدول الأمريكية والعمل على زيادة التعاون في مجالات التجارة والتنمية المستدامة ومكافحة التغير المناخي، ويجب أن تركز الجهود أيضاً على الابتكار التكنولوجي وتعزيز البنية التحتية الرقمية في المنطقة، وهي مجالات يمكن أن توفر فرصًا للتكامل والتعاون الإقتصادي المتوازن.

2 ـــ الالتزام بمبادئ النظام العالمي

يتوجب على الولايات المتحدة الالتزام علناً برفض مفهوم مناطق النفوذ الحصرية التي تتعارض مع مبادئ النظام العالمي العادل، ويمكنها تقديم نموذج للتعاون الدولي يرتكز على القيم المشتركة والمصالح المتبادلة، كما أظهر التاريخ فإن النهج القائم على الهيمنة الإقليمية غالباً ما يؤدي إلى عدم الاستقرار والصراعات، ومن ثم فإن العودة إلى رؤية فرانكلين روزفلت لعالم قائم على التعاون المتبادل والقانون الدولي هي الخيار الأكثر استدامة لتعزيز الأمن والازدهار العالمي.

ب ـــ التركيز على القضايا الداخلية

ينبغي على الولايات المتحدة التركيز على معالجة القضايا الداخلية التي تؤثر على سياستها الخارجية، مثل تعزيز الابتكار التكنولوجي وتحقيق الاكتفاء الذاتي في الموارد الإستراتيجية من خلال تعزيز قدراتها الداخلية والانخراط البناء مع الدول الأخرى، ويمكنها أن تعيد بناء صورتها كقائد عالمي يستند إلى القيم والمبادئ المشتركة بدلًا من الهيمنة القسرية. كما يجب أن تسعى إلى شراكات جديدة تعتمد على مبادئ العدالة والاحترام المتبادل، مما يعكس فهماً أعمق لاحتياجات وتطلعات شعوب المنطقة.

ختاماً، يجب ان لا تخضع أية سياسة خارجية لأية دولة لمزاجية رئيسها إو لإستراتيجية تأكل من سمعتها ورصيدها على المستويين الإقليمي والدولي، فالتاريخ زاخراً بسقوط امبراطوريات وصعود أخرى، وتراجع قوى وتقدم أخرى، هذا سنن ثابتة في العلاقات الدولية، فكيف بدولة كالولايات المتحدة الأمريكية التي تعاني من مشاكل وتحديات هائلة على المستوى الداخلي تنذر بالاسوأ ما لم يتم تداركها، لذا يجب على الولايات المتحدة أن تعمل وفق مقولة وزير خارجيتها جون كوينسي آدامز في عام 1821: عندما قال: “أميركا لا تذهب إلى الخارج بحثا عن وحوش لتدميرها”، ونحن نضيف بل يجب عليها ان تدمر الوحش الذي يسكن داخلها.