فلسطين التي خذلناها .. دور الإقطاعيين اللبنانببن في قيام إسرائيل

كتب: حسن بَزّي

كانت الأراضي الفلسطينية في القرن التاسع عشر من حيث ملكيتها تتبع جهات عدَّة، هي: ملكيات إقطاعية كبيرة يتقاسمها ملاَّك كبار فلسطينيون وعرب غير فلسطينيين، ثم أراضي الوقف الإسلامي، وأراضي الكنائس المسيحية، والأراضي الخاصة لصغار الملاَّك الفلسطينيين.

أما الملكيات الكبيرة، فقد تقاسمها ملاَّك كبار من الفلسطينيين أو من العرب السوريين واللبنانيين الذين تجمعت في أيديهم الأراضي غالباً في ظل وحدة الأرض أيام الدولة العثمانية.

وكانت البدايات الأولى لشراء اليهود أراضٍ في فلسطين عام 1855 على يد موشي مونتفيوري زمن السلطان عبد المجيد نتيجة تدخل بريطانيا أصدر السلطان فرماناً سنة 1849 يجيز لليهود شراء الأراضي في الديار المقدسة في منطقة موزا غرب القدس وقد أقيم عليها الحي اليهودي المعروف بحي مونتفيوري.

بذلك كانت بداية مواطئ أقدام الصهاينة في فلسطين وفي القدس قلب العقيدة بالذات، ليمتدَّوا بعدها كالأخطبوط في أرجاء فلسطين، وقد استمرت عملية تسريب الأراضي في فلسطين إلى الأجانب بعد إقرار إصلاحات وتنظيمات عُرفَت باسم «التنظيمات الخيرية» عام 1856

وبموجب هذه التنظيمات أصدرت الدولة العثمانية قانون الأراضي عام 1858م ثم تبع ذلك إصدار العديد من القوانين اللاحقة، فأصدرت لائحة تعليمات بحق سندات التمليك عام 1859م، ثم إعلان قانون التمليك عام 1861م، وملحقاته عام 1867م، ونظام تملُّك الأجانب عام 1869م.

ونتيجة لذلك قامت الدول الأوربية: كبريطانيا وفرنسا وروسيا بإرسال رعاياها للإقامة في فلسطين والعمل على شراء الأراضي وإقامة المستعمرات.

مساحة ملكية اليهود بلغت (1.634.218) دونماً. منها (245.581) دونماً، (15 ٪) حتى عام 1914 أي خلال العصر العثماني

وارتفعت نسـبة اليهـود إلـى العـرب في فلسـطين إلى 9.7 % فـي سنة 1914م، واسـتمرت في الارتفـاع لتصـل مقـارنة بعرب فلسطين إلى 35.1 % قبيـل سـنة 1948. وكان مجمـوع ما يحوزه اليهود من أراضي فلسطين قبل سنة 1914م لا يتجاوز 1.5 %، ثم ارتفعت هذه النسبة لتصبح 5.67 % قبيل سنة 1948

وبينما كان مجموع عدد المستوطنات على عهد السلطان عبد الحميـد عام 1907 لا يتجاوز 27 مستوطنة في فلسطين كلها، ارتفع هذا العدد ليبلغ 47 مستوطنة عام 1914 ثم 71 مستوطنة عام 1922، وفي عام 1944 قفز العدد إلى 259 مستوطنة، ثم وصل إلى 277 مستوطنة قبيل إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948

وأتت رسالة رئيس الوزراء البريطاني “آرثر جيمس بلفور” -ذائعة الصيت- التي أرسلها بتاريخ 2 نوفمبر 1917 إلى اللورد اليهودي “والتر دي روتشيلد” – ليتعهد فيها :”إن حكومة صاحب الجلالة

تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية”

لم تتركَّز ملكية الأراضي الريفية إلا في أيدي قلة من الموسرين القادرين على القيام بأعباء الأرض الجديدة، وقد انحصر الأمر هنا -خاصة بعد صدور قانون تملك الأجانب سالف الذكر- في ثلاث فئات كبيرة من الملّاك

الرأسمالية المحلية لأثرياء فلسطين (عائلات الحسيني , النشاشيبي , البنا وغيرها )، والرأسمالية العربية للعائلات الكبرى، التي كان جلها من لبنان وسوريا، والرأسمالية الأوروبية الصهيونية بنسبة أقل وتحوُّلات أكثر نشاطا من ذي قبل.

استطاعت عائلات شامية ولبنانية أن تستحوذ على مساحات شاسعة من أراضي فلسطينكعائلات “سرسق”، و”العمري الدمشقية” و”القباني”و”العكراوي”وغيرهم بواقع 57 ألف دونم للعائلات الشامية ونصف مليون للبنانيين إلى جانب بعض الأفراد من تابعية عثمانية كـ “بهائي” من إيران و”الكونت شديد” من مصر

ولكن تبقى عائلة “سرسق” اللبنانية، المنحدرة من الروم الأرثوذكس، صاحبة النصيب الأكبر والدور الأبرز في تحويل هوية الأراضي فيما بعد من كونها عربية إلى يهودية مُتسلِّلة، حسب رواية “إميل الخوري” بأنهم باعوا نحو 400 ألف دونم لليهود، بما فيها ملكيتهم في مرج بني عامر.

وهنا سنبدأ بسرد الحقائق التاريخية لعمليات بيع الأراضي الفلسطينية الخصبة والهامة جداً لليهود والتي تمت من قبل الأثرياء اللبنانيين:

عائلة شهاب : قامت ببيع قريتي الخالصة (كريات شمونة) والنعيمة للمنظمات اليهودية

الأب شكرالله وهو رجل دين مسيحي لم يتوضح الإسم الكامل قام ببيع قريتي : بديتا ويردا بإجمالي مساحة 1600 دونم

الزعيم أحمد بك الأسعد قام ببيع قرية المنارة وأراض واسعة من عديسة بمساحة إجمالية بلغت 2000 دونم

عائلة الطيان اللبنانية قامت ببيع أجزاء واسعة من لواء طولكرم ووادي الحوارث بمساحة إجمالية 21500 دونم

عائلة فرنسيس اللبنانية قامت ببيع قرية دفتا ومساحات واسعة من لواء صفد بمساحة 2500 دونم

عائلة العويني اللبنانية قامت ببيع نهاريا ومساحات واسعة من لواء عكا بمساحة 2500 دونم

علي بك سلوم أراد منافسة آل سرسق في بيع الأراضي الواسعة فقام ببيع منطقة إمتياز الحولة للمنظمات اليهودية بمساحة 41500 دونم

بعد بيع سلوم للحولة قام نجيب سرسق ببيع تل الضرو وجارود لليهود بمساحة 26500 دونم

وكانت آخر الأراضي الخصبة التي بيعت لواء طبريا وحطين من قبل ورثة اللبناني سليم رمضان .. لينال كبار الأثرياء اللبنانيين وسام العار !

أما صغار الملاك من الفلاحين فقد لعبت المراباة دورا فاعلا في خسارتهم أرضهم بعدما رهنوها إلى أثرياء المدن الكبار، الذين راحوا يغرون الفلاحين بتسهيلات مادية في الإقراض، خاصة في أوقات الضرائب، بصورة متراكمة عاما تلو الآخر حتى لم يجدوا بُدا من التفريط في أرضهم لقاء ما عليهم من الديون غير أنهم بقوا فيها على سبيل العمالة، في امتياز لن يتيحه اليهود لهم عندما تُبسَط سلطتهم على الأرض. كما ساهم تدخُّل الدولة في نوع آخر من انتقال الأرض إلى الأثرياء حين نقلت إلى حيازتها ما اعتبرته أراضي زائدة عن حاجة القرى من الأراضي المشاعية إضافة إلى الاستيلاء على مساحات شاسعة من مشاع القرى البدوية الزراعية في الجنوب بذريعة عدم سداد بدل الطابو أو الضرائب المستحقة، مما يتبعه بعد ذلك، عرض مباشر لتلك الأراضي في المزاد العام، ومن ثم انتقال ملكيتها للأثرياء وحدهم.

بينما انقلب الوضع في ظل الطابو رويداً رويداً إلى نمط مغاير يصطدم فيه الفلاح بأراضٍ لن يتمكَّن من استغلالها دون الطابو الذي يفر منه في الأصل. هذا المأزق للفلاح مع الانفتاح الآخر لطبقة الأثرياء قابله على الجانب الآخر تغوُّل رأسمالي آخر لرأس المال الصهيوني، بشقَّيْه الفردي والجماعي الذي ظهر مع قانون تملك الأجانب.

وقد تبدَّى فيما يصطلح عليه بالصهيونية العملية المبكرة، فيما قام به “مونتفيوري” وغيره من الرأسماليين كالبارون الفرنسي “إدموند روتشيلد” أغنى أغنياء اليهود، الذي أسَّس أول مدرسة زراعية على أرض قرية “يازور” في يافا بعدما نال حق استئجارها لتسعة وتسعين عاما بفرمان عثماني آنذاك.

خلاف هذا النوع الذي شمل العديد من المستوطنات المبكرة، برز النوع الثاني “الصهيونية العملية المتطورة” ذات التوجُّه ورأس المال السياسي القائم على الاستيطان البطيء والفعال على المدى البعيد. وقد هدف هذا النوع إلى تحقيق الارتباط للمستوطنات القديمة لكون تشظّيها الحالي يعوق حلم الوطن القومي المنشود، وهو ما حمل لواءه شيخ الصهيونية ومُنظِّرها الأكثر موهبة “مناحم أوسشكين”.

وقد لاحظ أن العائق أمام الحلم اليهودي يكمن في استمرار عمل العرب في المستوطنات اليهوديةوهو ما أغضب روتشيلد كثيرا فعمل عليه أوسشكين في كتابه “برنامجنا”كل أمة تسعى وراء كيان سياسي مستقل حر يجب عليها توصُّلا لغايتها أن تراعي ثلاث حالات ضرورية: حالة الشعب وحالة البلاد والظروف الخارجية , وخلص “أوسشكين” إلى نتيجة مفادها أنه لكي تتحقق ملكية أرض فلسطين للشعب اليهودي فإنه لا بد من خطوتين جوهريتين: شراء هذه الأراضي من مالكيها، والاهتمام بأن يستوطن اليهود هذه الأراضي بالفعل لا أن يتركوها للعمالة العربية.

لهذا الغرض تأسست المؤسسات اليهودية لتفعيل الشراء بكميات أكبر وإغراءات أفضل، وعلى رأسها “صندوق الائتمان اليهودي – يكت” و”الشركة البريطانية الفلسطينية – بنك إنك” و”الصندوق القومي اليهودي – كيرن كاييمت” و”صندوق تأسيس فلسطين – كيرن هيسود”.

مع هذا، ومع شدة إغراءات المؤسسات اليهودية للملاك من العرب أو حتى الأراضي المُستأجرة لأمد طويل من الحكومة العثمانية -وفق قانون الأجانب-، لم تتعد ملكية اليهود حتى إحلال الانتداب البريطاني للحكم العثماني عام 1914 أكثر من 245.581 دونما، بواقع 1% تقريبا من مساحة فلسطين الكلية. لهذا السبب بدأت السلطة الاستعمارية العمل في اتجاهين متوازيين تطوير شبكة المواصلات والاتصالات وبناء جهاز مالي لتمويل نشاطاتها محليا فتتمكن بسبب الاتجاه الأول من حصر ومسح جميع الأراضي والقرى ومن ثم تحويل ما يمكنها تحويله إلى الملكية اليهودية. وتستطيع من خلال التطوير الثاني أن تدعم نشاطاتها المحلية في تعزيز الجهد الاستيطاني والتوجُّه نحو فلسطين يهودية.

لم يخرج اليهود من فلسطين خلال عقود من الشراء والتحايل إلا بنسبة 5.7% ترتفع في أقصى تقديراتها إلى 6.7% من #فلسطين بلغت منها نسبة ما اشتروه من الفلاح نحو 9.4%، بينما كان نصيبهم الباقي (90.6%) من كبار الملاك والملاك الغائبين وأراضي الحكومة والكنائس والشركات الأجنبية ومِنح الانتداب.

وقد تركَّزت هذه الأملاك في الشمال دون الجنوب، نزولا إلى الجنوب بمحاذاة الساحل، حتى تقل بشدة في مدن الوسط، وهو ما نتج عنه خللا بنيويا كبيرا في مستوى العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن السكانية والثقافية في المدن ذات الكثافة اليهودية.

خلَّف الاستيطان إفقاراً للمدن والبلدات التي تعتمد على التجارة مع البلدات المجاورة، فقد أدَّى الإخلاء -الذي اشترطه اليهود على المُلّاك الكبار عند شرائهم- إلى فقد المزارعين لعملهم، ومن ثم تضخمت مشكلة البطالة وتدني الحياة الاقتصادية للفلسطينيين في المدن الشمالية.

فعائلة “سرسق” وحدها- الآنفة الذكر- قد أخلت ربع مليون دونم من أراضي مرج بني عامر، وتسببت بذلك في تشريد ما بين 20-25 قرية يسكنها قرابة 2546 أسرة تشمل نحو 15 ألف نسمة.

مع ازدياد كثافة النشاط الصهيوني في فلسطين في عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته، بدأت الاتصالات والعلاقات في التشكّل والنموّ بين الكنيسة و«المارونية السياسية» في لبنان من جهة والوكالة اليهودية في فلسطين من جهة أخرى.

هناك كتاب نُشر في أميركا سنة 1994 للباحثة لورا ايزنبيرغ يتحدث بالتفصيل عن هذا الموضوع اسمه «عدو عدوّي – لبنان في المخيلة الصهيونية المبكرة 1900 – 1948» وهو في الأساس دراسة في وثائق الأرشيف المركزي الصهيوني في القدس مدعومة أيضاً بوثائق أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية . يسلط الكتاب الضوء على شخصيتين رئيسيتين من الكنيسة المارونية: البطريرك أنطوان عريضة والمطران أغناطيوس مبارك، اللذين كانا من أشد الداعمين والمتحمّسين للحركة الصهيونية ومشروع الدولة اليهودية في فلسطين، مع الفارق بينهما أن الثاني أعلى صوتاً وأكثر مجاهرة بمواقفه من الأول.

كان البطريرك بحكم منصبه يُراعي اعتبارات تتعلق بالعلاقة مع المسلمين في لبنان وأهمية عدم استفزازهم بمواقفه الصادمة والتي قد تسبب توتراً يضر بمصالح الموارنة وتصدرهم لقيادة البلد. ويكشف الكتاب هوية مجموعة من الشخصيات اللبنانية التي لعبت دوراً في تأسيس وترسيخ

العلاقات مع الصهاينة. ومن أبرزهم محامٍ اسمه نجيب صفير ورجل الأعمال الأرستقراطي ألبرت نقاش، والشاعر شارل قرم، إضافة إلى الرئيس اللبناني أيام الانتداب الفرنسي إميل إدّه.

وفي سنة 1920 عُقدت أول اتفاقية مارونية – صهيونية وقّعها عن الجانب اللبناني نجيب صفير وعن الصهاينة يهوشع حانكين وكانت تتلخص في اعتراف الموارنة بحق اليهود في إنشاء وطن قومي لهم في «أرض إسرائيل» وتأييدهم للهجرة اليهودية غير المحدودة في مقابل اعتراف الصهاينة بأنّ لبنان مسيحي مستقل.

ولكنّ هذه الاتفاقية لم تكن ذات مفعول أو تأثير حقيقي بسبب ضآلة مستوى من وقّعوها من الجانبين وإنما كانت بمثابة «خطاب نوايا» ومقدمة لما سيأتي . وتتلخّص المحاور الأساسية لأفكار هذا الفريق الماروني المندفع بقوة باتجاه الصهاينة بما يلي : الموارنة ليسوا عرباً ولبنان يجب أن يعود إلى أصوله الفينيقية وأن يتخلّص من التأثيرات التي تركها الغزاة المسلمون وأن سيطرة الأكثرية العربية المسلمة تشكل خطراً مميتاً على الأقليات في المنطقة , وبالتالي فإن هناك جامعاً مشتركاً بين المسيحيين في لبنان واليهود في فلسطين كونهما أقلية في وسط عربي مسلم معادٍ ويصبح تعاونهما وتحالفهما أمراً ضرورياً ومفيداً لكليهما .

وحسب كلمات الرئيس إميل إده في أحد لقاءاته مع الصهاينة فإن «الثقافتين اليهودية واللبنانية (يقصد المسيحية) متفوّقتان على ثقافة العرب وتناضلان من أجل الهدف نفسه وهو تشييد جسر بناء بين الثقافتين الشرقية والغربية» , بل إن شارل قرم ذهب إلى حد تشبيه الموارنة باليهود، ممتدحاً الطريقة التي حافظ فيها الشعبان على خصائصهما المميزة، على الرغم من تأثيرات الأمم الغازية. ويتفق هذا التيار الماروني على فكرة التقسيم الديني للمنطقة: لبنان للمسيحيين، فلسطين لليهود وسوريا للمسلمين!

وفي يوم 30 أيار/مايو 1946 تم إبرام اتفاقية رسمية بين الوكالة اليهودية والكنيسة المارونية ووقّعها في القدس جوزيف عوّاد نيابة عن البطريرك عريضة وبرنارد جوزيف (مدير الدائرة السياسية بالوكالة) نيابة عن حاييم وايزمان , وكانت هذه الاتفاقية ذروة التعاون الماروني- الصهيوني وأضفت طابعاً رسمياً على العلاقات بين الجانبين اللذيْن اتفقا على إبقائها سرية. وجوهر هذه الاتفاقية هو الاعتراف والتبادل بالمطالب اليهودية في فلسطين وبالطابع المسيحي المستقل للبنان.

في حلول عام 1936، كانت العلاقات الصهيونية مع الكنيسة والساسة الموارنة قد وصلت إلى مرحلة متطورة إلى الحد الذي دفع الوكالة اليهودية للتفكير باستغلال ذلك، وإضفاء طابع رسمي على علاقتها مع لبنان. وقد تشجّع الزعيم الصهيوني حاييم وايزمان بوجود فرنسي يهودي على رأس الحكومة في باريس. وسرعان ما تولّى المهمة موشيه شرتوك، رئيس الدائرة السياسية، فأرسل الخبير بالشؤون اللبنانية الياهو ابشتاين إلى بيروت للقاء الرئيس إميل إده ويقترح عليه اتفاقية رسمية تنص على تعاون لبناني-صهيوني وثيق في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية.

وفي التقرير الذي رفعه عن الاجتماع قال ابشتاين إن إده كان إيجابياً ومتحمّساً وكرّر قناعاته السابقة بأن الصهيونية تشكل قوة إيجابية في فلسطين وهو جاهز تماماً لإبرام معاهدة رسمية وعلنية بينهما ولكنّ إده أضاف أنه لا بد من موافقة المندوب السامي الفرنسي في لبنان. والمشكلة أمام الطرفين،

كانت أن المندوب السامي يعارض هذا المشروع معارضة تامة. والواقع أن المندوب السامي كان يشك في الصهاينة ومآربهم في لبنان ويعتبرهم عملاء أو أتباعاً لبريطانيا، وبالتالي كان مصمماً على عدم السماح لهم بالتمدد والعمل في لبنان الذي هو من حصة فرنسا.

رأى الصهاينة أن يجربوا حظهم في العمل على تجاوز المندوب السامي والقفز مباشرة إلى رؤسائه الكبار في باريس، وخصوصاً صديقهم رئيس الحكومة ليون بلوم. وبالفعل ذهب حاييم وايزمان وقابل ليون بلوم في باريس وشكا إليه دو مارتيل وحاول إقناعه بنقض موقف دو مارتيل والسماح لإدّه بإبرام المعاهدة. ولكن ليون بلوم على الرغم من تأييده الشخصي لمعاهدة لبنانية-صهيونية إلّا أنه رفض مجابهة مندوبه السامي واعتذر إلى وايزمان!

كانت تلك نهاية الحكاية ! انتهى الأمل الصهيوني في معاهدة رسمية وعلنية مع لبنان. قتله المندوب السامي الفرنسي بعناده وإصراره. لكنّ النشاط الصهيوني في لبنان لم يتوقف واتجه المجهود الصهيوني في مسارات أخرى.

في دراسة مطوّلة نُشرت في صحيفة السفير في أربع حلقات (29/1-3/2/2011) وفيها تفصيلات مذهلة عن لقاءات إلياهو ساسون وطوبيا أرازي ويولاند هارمر مع رياض الصلح في باريس، غداة إعلان قيام دولة اسرائيل وكان تقي الدين الصلح وزهير عسيران على دراية ومشاركة في تلك اللقاءات من خلال يولاند هارمر . اللقاءات التي عقدها ممثلون عن الوكالة اليهودية مع أعيان وزعماء ورجال دين في سورية ولبنان، ومع رجال سياسة من ذوي المراتب العالية كانت أمراً طبيعياً إلى حد ما، حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، خصوصاً أن رجال الوكالة اليهودية العرب كانوا يتنقلون بين دمشق وبيروت والقدس بحرية تامة.

واقترح بشارة الخوري أن يُقرض المشروع الاستيطاني اليهودي البطريرك عريضة مبلغاً من المال لشراء جبل عامل، وتوطين الموارنة فيه، ليكونوا جيراناً لليهود (…)، لأن تنفيذ هذه الفكرة سيتيح لليهود والموارنة الوقوف كتفاً واحداً ضد التيار العربي في الشرق.

كما يحدثنا التاريخ عن الكثير من رجال الدين المسلمين أيضاً من أئمة بعض القرى والمخاتير كيف كانوا يساعدون كبار المالكين والزعماء على نقل ملكية الأراضي لليهود عبر الإغراءات المالية الكببيرة , كذلك ساهم رجال الدين التابعين لكبرى العائلات الإقطاعية في إخماد ثورات الأهالي وأهمها ثورة 1936 التي كانت كفيلة بإنهاء المشروع الصهيوني واقتلاع جذوره من فلسطين.

إلى هنا أنتهي من سرد الجريمة التاريخية الكبرى التي تسببت بالخيبة الكبرى في فلسطين الحبيبة , على أمل أن نبدأ في يوم آتٍ بسرد ملحمة التحرير !

(فَإِذا جاءَ وَعدُ الآخِرَةِ لِيَسوؤا وُجوهَكُم وَلِيَدخلوا الْمَسجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّة وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً).