صراع على السيادة والنفط والشرعية الدولية
| د. محمد حسن سعد |
رئيس معهد وورلد فيو للعلاقات الدولية والدبلوماسية
عضو الجمعية الأميركية للعلوم السياسية
منذ إعلان مبدأ مونرو عام 1823، رسّخت الولايات المتحدة تصوراً إستراتيجياً ثابتاً يقوم على اعتبار القارة الأميركية مجالاً حيوياً ينبغي أن يبقى بمنأى عن أي نفوذ خارجي، وأن يكون خاضعاً بدرجات متفاوتة للرقابة السياسية والإقتصادية والأمنية لواشنطن. وقد تحوّل هذا المبدأ مع مرور الوقت من مجرد إعلان سياسي إلى عقيدة تدخلية واسعة، بررت عمليات انقلاب، وحملات عقوبات، وتدخلات عسكرية مباشرة وغير مباشرة في دول أميركا اللاتينية. ومع نهاية الحرب الباردة، وإن تراجع الخطاب الرسمي لمبدأ مونرو، إلا أن جوهره بقي حاضراً لناحية رفض أي نموذج سياسي أو إقتصادي يتعارض مع المصالح الأميركية في الفناء الخلفي لواشنطن.
في هذا السياق التاريخي، لم تكن فنزويلا مجرّد دولة “مشاكسة”، بل استثناءً بنيوياً في الإقليم. فمنذ عهد هوغو تشافيز وحتى نيكولاس مادورو، اختارت كاراكاس مساراً مناقضاً للهيمنة الأميركية: توجه اشتراكي، تحالفات مع الصين وروسيا وإيران، خطاب معادٍ لسياسة واشنطن، ومحاولة بناء نموذج بديل من التنمية قائم على إستقلال سياسي وإقتصادي كبيرين. والأخطر من ذلك، وهو ما لا تخفيه مراكز النفوذ الأميركية، أن فنزويلا تقف فوق واحد من أكبر احتياطات النفط في العالم، ما يجعلها بالنسبة لواشنطن دولة لا يمكن القبول بأن تكون خارج نطاق السيطرة والوصاية.
هنا تحديداً تنشأ عقدة الصراع: التقاء نموذج سياسي معادٍ لواشنطن مع ثروة نفطية هائلة، ضمن فضاء جغرافي تصر الولايات المتحدة على اعتباره امتداداً طبيعياً لنفوذها.
ما وراء حظر الطيران والحصار القانوني
إن تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترامب الداعي إلى التعامل مع المجال الجوي الفنزويلي باعتباره “مغلقاً بالكامل” لا يمكن فهمه كمجرد خطوة أمنية أو كإجراء متعلق بتنظيم حركة الطيران. بل هو جزء من منهجية متكاملة لإعادة فرض السيطرة على الحديقة الخلفية، عبر استخدام أدوات غير عسكرية على نحو يتداخل فيه الرمزي بالعملي، واللوجستي بالسياسي.
التحكم بالمجال الجوي لفنزويلا يعبّر عن نوع جديد من الحصار المركّب: ليس حصاراً اقتصادياً فقط، بل حصاراً على الحركة، على الاتصال، على اللوجستيات الحيوية، وعلى قدرة الدولة على التنفس عبر الممرات الإقليمية والدولية. يشمل هذا الحصار العقوبات الإقتصادية، الدعم السياسي للمعارضة، محاولات عزل الدولة على الصعيد المالي والنفطي، والتهديد المباشر باستخدام القوة. ومن منظور القانون الدولي، تُشكّل كل هذه السياسات أحادية الجانب انتهاكاً لمبادئ سيادة الدول وعدم التدخل المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، ما يبرز هشاشة آليات إنفاذ القانون الدولي أمام القوى العظمى ويكشف التباين بين النصوص القانونية والواقع السياسي الذي تفرضه المصالح الإستراتيجية الأميركية.
وفي وسط هذا المشهد المتصاعد، جاءت تصريحات زعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ تشاك شومر لتفتح الباب على بعد دستوري بالغ الحساسية داخل الولايات المتحدة نفسها. فقد حذّر شومر من أن إدارة ترامب تمضي في مسار قد يقود إلى عمل عسكري ضد فنزويلا من دون العودة إلى الكونغرس، مشيراً إلى أن أي خطوة من هذا النوع ستكون تجاوزاً واضحاً للدستور الأميركي الذي يمنح الكونغرس وحده سلطة إعلان الحرب بموجب المادة الأولى، القسم الثامن، البند الحادي عشر من الدستور. واعتبر شومر أن سلوك ترامب يذكّر بالنهج الذي اعتمد في محطات تاريخية أُقحمت فيها الولايات المتحدة في صراعات خارجية بلا تفويض تشريعي كافٍ، مؤكداً أن محاولة الرئيس الالتفاف على السلطة التشريعية تشي بوجود نية جدية لاستخدام القوة، لا بوصفها خياراً دفاعياً، بل كجزء من مشروع سياسي يهدف إلى إعادة تشكيل البيئة الجيوسياسية في أميركا اللاتينية. وهكذا لم تعد المخاوف من الحرب مقتصرة على خصوم واشنطن أو المراقبين الخارجيين، بل أصبحت جزءاً من النقاش الداخلي الأميركي بين المؤسستين التشريعية والتنفيذية.
ومع التحديث الأخير الذي وجهه ترامب إلى الرئيس نيكولاس مادورو:
“إذا لم تغادر السلطة طوعاً، فسنجعلك تغادر بالقوة”
يتضح أن واشنطن لم تعد تتعامل مع الملف الفنزويلي بوصفه خلافاً دبلوماسياً، بل بوصفه ملفاً ينتمي إلى سياسة تغيير الأنظمة. هذا التصريح ليس انفجاراً مفاجئاً، بل هو الذروة المنطقية لمسار طويل بدأ بالعقوبات الإقتصادية، مروراً بمحاولات دعم المعارضة، وصولاً إلى عزل الدولة عبر الجو والمال والنفط، وانتهاءً بالتهديد المباشر باستخدام القوة.
خلاف بنيوي لا ظرفي: لماذا تصطدم واشنطن بفنزويلا؟
هناك ثلاثة أسباب رئيسية تجعل الخلاف بين واشنطن وكاراكاس بنيوياً وغير قابل للاحتواء:
1. النموذج السياسي المناقض للهيمنة الأميركية
فنزويلا تتبنى نموذجاً اشتراكياً – سيادياً يرى في الولايات المتحدة قوة استعمارية جديدة. هذا الخطاب، الذي بدأ مع تشافيز واستمر مع مادورو، ليس مجرد رأي سياسي، بل عقيدة حكم تعيد تعريف علاقة فنزويلا بالعالم.
2. الثروة النفطية الهائلة
تمتلك فنزويلا أكبر احتياطي نفطي مثبت في العالم. لطالما اعتبرت واشنطن النفط في أميركا اللاتينية جزءاً من منظومة أمنها القومي. دولة غنية بالنفط، معادية لواشنطن، ومتحالفة مع منافسيها الدوليين، هي بالنسبة للأمن القومي الأميركي معادلة لا تقبل الاستمرار.
3. التحالفات الدولية المناقضة لواشنطن
ارتبطت فنزويلا بالإقتصاد الصيني، وبالدعم الروسي في مجالات الدفاع والطاقة، وبعلاقات إستراتيجية مع دول خارجة عن النفوذ الأميركي. هذا جعلها نافذة لقوى غير أميركية داخل الحديقة الخلفية، وهو أمر يتصادم جذرياً مع عقيدة مونرو.
إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للقارة
سياسات ترامب تجاه فنزويلا ليست حدثاً معزولاً، بل جزءاً من إعادة هندسة أوسع للسياسة الأميركية في أميركا اللاتينية. فواشنطن، التي تخشى تحول القارة إلى ساحة نفوذ للصين وروسيا، تحاول إعادة ضبط الإقليم عبر الضغط على الأنظمة غير الموالية، وتعزيز الأنظمة المحافظة، وتقديم الدعم الاستخباراتي والإقتصادي للدول التي تقبل بدور أميركا المركزي.
وفي هذا الإطار، تصبح فنزويلا نموذجاً تأديبياً يوجّه رسالة إلى بقية دول أميركا اللاتينية:
أي مسار سيادي مستقل ستكون نتيجته حصاراً، عقوبات، عزلاً، وربما تهديداً بالقوة.
بين السيادة والهيمنة: إلى أين يتجه الصراع؟
المشهد الحالي يشير إلى أن الصراع الأميركي–الفنزويلي ليس قابلاً للحل قريباً. ففنزويلا ترى في الضغط الأميركي محاولة لخنق مشروعها السياسي. وواشنطن ترى في استمرار النظام الفنزويلي تهديداً مباشراً لأمنها القومي. ومع دخول العامل النفطي والموقع الجيوسياسي الحساس، يبدو أن الصراع تجاوز البعد الثنائي إلى صراع على مستقبل التوازنات في نصف الكرة الغربي.
فنزويلا ليست مجرد دولة في جنوب القارة، بل مسرح اختبار لنوع القوة الأميركية في القرن الواحد والعشرين: قوة لا تعتمد فقط على الجيوش، بل على العقوبات، السيطرة على السماء، الحرب المالية، والدبلوماسية القسرية.