كرامة بنكهة الأرواح الهائمة

 

| رنا الساحلي |

كنتم إعلاميون على طريق القدس، الآن إعلاميون حاملون لأمانة قل نظيرها، وحاملون لثقل كبير سنوصله حيث مراده، لتبقى الأمانة نصب أعيننا، فهي الحق والحقيقة والوطن والمقاومة وصون الكرامة والانسان.

 

أمانة وطن قاوم وثبت وحارب وحيداً ليبقى شامخا وان استشهد ابناؤه.

 

حاملو الأمانة يا من ستحملون جراح شبابنا واطفالنا ونسائنا لتضجوا بها في المحافل الدولية والاعلامية والسياسية، لينتصر الدم على حقدهم وينتصر الحق على كراهيتهم.

 

حاملو أمانة الشهداء الذين زرعوا أجسادهم في كل حبة تراب لنبقى نحن وتبقى كرامتنا وكبرياؤنا أمام حقد طائرات وهمجية دبابات أبت إلا أن تدمر الحجر والبشر.

 

حاملو الأمانة لأنكم من ستنقلون الحقيقة بعدستكم، بأقلامكم، بآرائكم الحرة، لتصل إلى كل العالم.

 

كانت الكاميرا والقلم والموقف سلاحكم الأقوى، ففي معركة الميدان انتصر المقاومون، وفي معركة الرأي العام والموقف الحر انتصرتم أنتم أمام الكاميرات وخلفها، كما انتصرت عيتا وكفركلا والطيبة وطلوسة العديسة ومارون ويارون وشمع وكل القرى الحدودية التي قدمت أبناءها على مذبح الوطن، وقدمت حجارتها وزرعها وكل خيراتها لينتصر لبنان..

 

منذ سنة تقريباً خلال شهر شباط 2024، كرمنا، بوجود الشهيد الحاج محمد عفيف، مجموعة كبيرة من إعلاميين على طريق القدس وكان لنا وعد أننا سنكمل الطريق بالتكريم بعد انتهاء المعركة، وكنت أتهيب هذه اللحظة، فكيف سنكرمكم جميعاً وأي قاعة ستستوعب أعدادكم ومحبيكم، أنتم اعلاميون وصحافيون ومصورون لأنكم بحق تستأهلون كل تكريم وإشادة ولن نوفيكم حقكم.

 

أما وقد توقفت المعركة، وجدت أن من قاد هذه المعركة وصوّبها إعلامياً، قد ارتقى قبل مئة يوم ويوم.

 

وجدت أن السيف الذي كان مسلطاً على رقبة نتنياهو إعلامياً، بعد مقاومة الأحرار، قد استهدفه نتنياهو بطائرة هزت بيروت لتقول لا للكلمة الحرة ولا للمواقف الشجاعة ولا لمن أوجعه في عقر داره. من وقف صلباً أمام طائراتهم على المنابر، خافوا منه فقتلوه في شقة تحتوي على بضع تلفونات وكمبيوترات ومجموعة أوراق وأقلام كنا نستخدمها لنعبر عن رأينا وموقفنا….

 

لقد أصبح الحاج محمد مدرسة في الإعلام المقاوم الشريف، ومنهجاً لا يمكن إلا أن نقف له ونتوقف عنده، فالإعلام نصف المعارك التي تخاض، بل انها قد تلامس أن تكون المعركة قبل أن يبدا أزيز الرصاص.

 

القائد الاعلامي الكبير الحاج محمد كان ينتظر أن ننتصر ليقيم لكم المحافل، ويجمعنا سوياً لننسج مع الشمس والقمر حكايا المقاومين والشهداء، لنخبر كل العالم أننا انتصرنا، بثباتنا، بأبنائنا الذين بقيت أجسادهم معلقة على السلاح ولم تنحني، برفاتهم الذي زرع في كل حبة تراب جنوبية وعند كل شجرة محروقة من زيتوننا الذي زاد رشحه للكرامة والعزة…

 

هي كرامة بنكهة الأبناء والأزواج.

 

للأسف يا حاج محمد، كنا ننتظرك بيننا، فزت أنت والتحقت بالحبيب الأسمى والسيد الأجمل.

 

أليس هو روحك التي بين جنبيك؟!

 

لا طيب الله العيش بعده… هي التصاق الأرواح الهائمة وعشق لا يفهمه إلا من ارتوى من هذا الكأس الجميل.

 

حاج محمد، ها هم أحبابك ها هنا يجتمعون وكان من المفترض تكريمهم لكنهم سبقوني وقرروا تكريمي، وعذراً عذراً عذراً، لا أستحق هذا التكريم، فأنا التي أخجل منكم ومن الشهداء ومن الاخوان الجرحى، بدءاً من عملية البيجر وصولاً إلى الجرحى عند الجبهات.

 

فمن أنا لأكرم أمام هذه العطاءات؟

 

من أنا أمام كل تلك التضحيات العظام؟

 

فيا زملائي هذا التكريم هو أنتم بحد ذاته، ومحبتكم ووفاؤكم لمسيرة الحق والانسان والوطن.

 

ثوار نحن لأجل وطننا، مقاومون لأجل كرامتنا، أحرار للحفاظ على سيادتنا.

 

فأنتم أهل الحق والكرامة والشجاعة والموقف الحر.

 

العلاقات الإعلامية في “حزب الله” هي صوت المقاومين وصدى صواريخهم، نقلت خلال الحرب أبرز العمليات التي قامت بها المقاومة الاسلامية لتساند القضية الفلسطينية. انتقلنا بعدها الى الدفاع عن الأراضي اللبنانية التي اعتدى عليها العدو الصهيوني، وصولاً إلى أن استهدف قادتنا الكبار، وعند استشهاد أميننا لا أخفيكم، كانت من أصعب اللحظات ثقلاً وضياعاً.

 

أمن المعقول أن يستشهد وطننا وحلم كل أمتنا، وسند كان يتكئ عليه الجميع من دون أن يسأله “أتعبت يا سيد؟”!

نعم سيد العالم استشهد يا سادة، وقد حمل كل العالم على كتفه. في 28 أيلول أعلنت العلاقات الإعلامية أن سماحة الأمين ارتقى، وكنا نحن نغوص في بحار الألم والوجع والتيه، وكان الحاج محمد يضج الحزن في أعماقه وكأن الكون كله بات فوق رأسه. بكينا سوياً وقد عاتبته والغصة في حناجرنا “كيف استطعت يا حاج محمد أن تخط هذه الأحرف؟ كيف تنعى وطننا؟ كيف كتبت أناملك عن شهيدنا أننا لن نلقاه ولن نشاهده يتنفس أعماقنا؟”.

 

أنينك يا حاج محمد لا زلت أسمعه، ولا زالت كلماتك التي تقول “لا شيء بعد السيد”، علمت أنك راحل من وجهك السموح… سألتك بالله لا تفجعنا… لا زالت الساحة بحاجة إليك، لا زال خط الإعلام المقاوم بحاجة إليك. نحتاج إلى هذه القوة التي تعطينا جرعات من الصمود والأمل والعنفوان والكبرياء.

 

الضربات التي توالت أوجعت المقاومة لكنها لم تكسرها، من الأمينين العامين إلى الشيخ العزيز، وصولاً إلى كل قائد وكل شهيد ارتقى.

 

كان لا بد أن نقف. سألني يومها الحاج محمد “هل أنت خائفة؟”.

 

حاشا لله أن أخاف من صواريخهم، حاشا لله أن أرتعد من قوة اصطنعوها. نحن من مدرسة “أتهددني بالموت يا ابن الطلقاء؟”، ومن مدرسة “كل يوم عاشوراء، وكل أرض كربلاء”. أخاف من الموت ونحن له سائرون؟!

 

لا يا حاج لا شيء بعد كرامتنا، وما أنا سوى هذا الوصال الممتد بين الأرض والسماء.

 

معاً أكملنا الطريق، فكنتم أنتم في كل المؤتمرات جنباً الى جنب المقاومة والعلاقات.

 

في الضاحية الأبية، وخلفنا صورة عجز الصهيوني بتدميره المباني، وقفنا هناك عندما خاف البعض، وفوقنا كل قدراتهم تحاول دب الرعب في نفوسنا.. ولم نبالِ أوَقَعنا على الموت أم وَقَعَ الموت علينا؟

 

وفي المشهد الثاني، كانت صورة الأرواح الجميلة في مراقد الشهداء، ولعب العدو لعبته الحقيرة مجدداً هدد المبنى المقابل ولم نخف، فالقصف لم يرجف قلبنا فكيف بتهديده؟

 

المشهد الثالث، ذاك المنبر العظيم، هناك كانت قداسة الحب تتجلى، وغصات الحناجر كنا نراها بالعيون… كنا ثكلى يا سماحة العشق.. رأيت كل هيام في أرواح المحبين، والحاج محمد فضحته حشرجات قلبه قبل صوته. قلت له يا حاج انت تشبه الشهداء، عينك تشبههم، وجهك بات يشبههم، كل ما فيك شهادة. ابتسم وكان يراها. صدقوني كانت نظراته في مكان آخر.

 

كنت أشاهد الجنة في عينيه. كنت أشاهد سماحة السيد الأسمى والهاشمي وكل الشهداء… لم يعد معنا، كان يحلق في مكان آخر.

 

أيام ستة فقط، وتم استهداف العلاقات الإعلامية في “حزب الله” في رأس النبع، واستشهد الحاج محمد وإخوتي وزملائي الحاج موسى والحاج محمود والأخ حسين وهلال.

 

هنا بدأت رحلة الغربة معي. ما عساي أفعل وكيف أستدل الطريق؟! كانت أصعب اللحظات بعد استشهاد سماحته.

الآن ماذا؟ كيف أكمل الطريق وكل ما فيني تشظّى؟

 

لملمت ما تبقى مني، فالطريق الموحشة كانت طريق الحق ولا بد أن أعبر.

 

أصعب بيان كتبته هو أن أعيد مشهد الحاج محمد وسماحته… تكرر المشهد مجدداً.

 

يحكى أن الوحدة صعبة، واللا انتماء أصعب. وها أنا ذا في مكان لا أعرفه. أجلس على الأرض وحيدة. يرتجف كل كياني، وأخط أحرف الارتقاء مرة جديدة وكأني فصلت عن عالم الواقع… أكتب الكلمات من دون أن أراها بعيني، بل كانت دماء القلب هي المدواة…

 

يعز عليّ يا حاج محمد أن أنعيك، ويعز أن أنعى من عشت معهم ثمانية عشر عاماً.

 

كل شيء بات أصعب. لا الأرض بيتي، ولا الناس أعرفهم. وكل ما فيني تائه كثمل في صحراء مقفرة لا يعرف أي اتجاه يسير، وكأن الشمس والغيوم باتت عكس اتجاهات الحياة… لكن كان لا بد من الاستمرار مجدداً وإن كنت قد فقدت جزءاً من بصري لكن لم أفقد البصيرة.

 

وهنا انتقلت الى مرحلة جديدة. كان هناك من يقف إلى جانب العلاقات ويستحق كل ثناء وتقدير واحترام، انبرى وتطوع للمساعدة من كل قلبه وروحه، فله كل التحية والاحترام، إنه الحاج محمود، الأخ والأب والصديق الذي ساندنا ووقف كخيمة لنا.

والتحية موصولة إلى الاخوة النواب فرداً فرداً الذين سهلوا ووقفوا وساندوا العلاقات خلال هذه الفترة.

 

وفي هذه المرحلة الجديدة والصعبة، نشكر من تصدى لهذه المهام الصعبة في العلاقات الإعلامية، الحاج يوسف الزين، مسؤول العلاقات الاعلامية الذي، إن شاء الله، ستكون مرحلة مليئة بالتعاون المثمر والآفاق التي ستفتح لمزيد من التطور في العالم الاعلامي ومواكبة الأحداث التي تحصل.