الاستاذ الجامعي الشيخ الدكتور صادق النابلسي / جريدة الأخبار
دائماً كان الوطن بالنسبة إلى جيلنا، في الأقاصي والأفق البعيد، يلمع كوميضٍ وبريقٍ خاطف ثم تسقط عيوننا في الظلام. لم يُقدّر لنا أنْ نراه ونلتقي به وجهاً لوجه. كنّا نقف خلف باب الانتظار الطويل، وكان ذلك كافياً لجعلنا هُزأة أمام الدول المستعلية، ثم لا نجد غير الوهم، لا شيء غير ذلك.
أنا مِن هؤلاء الذين عاشوا خلف الأبواب الموصدة وخلف الآمال الضائعة، إلى أن جاء شباب فيهم شيء عظيم من ميراث الأنبياء، في الإخلاص والحب والجِد والانتظام والمسؤولية والأمانة، تؤرقهم أحوالنا وتضنيهم مآسينا، يتعذبون لعذاباتنا ونحن ننام على حصير التشرد بفعل الاحتلال الإسرائيلي، ويتألمون لألمنا ونحن نتسكع على أتربة الحرمان بسبب نخبة تستعبدها شهوة السلطة والعلاقة مع آلهة السفارات ومن أجلها يُنسى كل شيء، الكرامة والنخوة والحميّة والضمير والسيادة والوطن. أي والله، الوطن الذي لم يكن في عقيدتها مباركاً كما توحي زوراً شعاراتهم المقدسة، بل طاولة قمار تستجلب الكثير من النقود.
هؤلاء الشباب كان لهم أحلام أخرى غير أحلامنا البسيطة في تأمين الخبز والماء والكهرباء. في جعبهم التي يحملونها متسع لأدوات الرسم والخيال. وفي فكرهم ثمة ممكنٌ دائماً، يحتاج إلى إقبال ومنطق وصدق ويقين بالأرض التي يعرفون ماهيتها وطعمها ورائحتها أكثر بما لا يقاس من زعم المتقاتلين على الجاه والنفوذ والمال.
هؤلاء الشباب يعلمون أنّ الحياة حق كما الموت تماماً. لا يأبهون لحسابات أدعياء السياسة المخملية. لا يعرفون الخوف إلا على الوطن. ولا يهابون إلا الله. يذهبون إلى الشهادة بعفوية وعشق. سعداء كما لو أنهم يجلسون على كنوز الدنيا. لا يُخلون أماكنهم لليأس والتشاؤم، بل يخوضون بين الجبال والوديان صراعاً بطولياً لأنهم يحلمون بالكرامة والمعنى والغد الأكثر جمالاً.
مذ انطلقوا وهم يتمرّنون على عدم الاستسلام. صوت الحسين وهو ينادي «هيهات منّا الذلة» أصيل في شجاعتهم. كربلاء تجعل لديهم معرفة كاملة بالسياسات والأهداف، تمنحهم مفهوماً أوسع عن الوطن عبر المعاينة والمشاهدة والتجريب. الوطن كحدثٍ ملموس لا كنظرية، كصيرورةٍ من تضحيات ومعموديات مباركة. الوطن الذي تربط أبناءه مصائر مشتركة، ونضالات مشتركة.
للأسف، لقد نجحت «طبقة السياديين» المستلقية على سرير الضِعة والكسل، في تسميم جزء من إرادة اللبنانيين وثقافتهم وخياراتهم. زرعتْ فيهم مركّب نقص واستطاعت أن تؤسس لفكرة وهمية في عقولهم مفادها أنْ ليس في الإمكان إلا الانبطاح أمام العدو. وعلى اللبنانيين أن يرضخوا للصيحات المرعبة الآتية من دبابات العدو التي لا تُقهر، ولحاملات الطائرات وبحّارتها الأشاوس الآتين من عمق آلهة السيف والنار، وأن يتجمدوا أمام آلة الموت لأنّ كل شيء سينتهي خلال أيام أو أشهر على أبعد تقدير.
ماذا يجب أن يقال لنخبة تمضي أوقاتها في سفارات الطغاة الدوليين وهي تجتذب ضعاف قومنا، فتعلمهم أصول الهوان ومسالك الخيانة، وتنمّي لديهم غريزة الحقد على أبناء جلدتهم، وقراءة اتجاه الربح السريع مستسلمين للنعيم الذي يغشاهم، وكيف يلبسون طربوش العبودية، وكيف يغيّرون لون جلودهم وكيف يحلمون أنّ لهم من الأمر شيء؟
بل وماذا يجب أن يقال عن طبقة الإعلاميين والفنانين والضحّاكين التي يسهل رشوتها، المأخوذة بالدعة والتفاهة وتستعلي على اللبنانيين بتصريحات ومواقف وكلمات تشبه طنين الذباب؟
الفرق بين المقاومين وهذه النخب التي تعيش على استعداء كل حالة مقاومة في الأمة، أنّ المقاومين لا سلطان على أرواحهم سوى الله، في وقت تعيش هذه النخب مطأطئة رأسها إلى الأرض، واجفة خائفة، ساقطة في الهمّ الشخصي، يملأ السخف شرايين مقارباتها لقضايا لبنان وفلسطين والأمة، تنظر إلى الجرائم التي تُبكي الحجر بعيون زجاجية، وهي في نظرها هذا تمضي إلى أفق آخر، أفق الإثم والبغي الأكبر. مع هذا، نحن لا نعاني من تردّياتها وجبنها وتخاذلها فحسب، بل من وقاحتها وهي تستسخف الدماء الطاهرة التي لولاها لكان الصهاينة الذئاب وكل وحوش الأرض يطأون ترابنا.
لا شيء يقتل الوطن، ولا شيء يقوده إلى الهاوية سوى هؤلاء الذين يمارسون مهنة اللغو والنفاق الأملس والبلاهة المفرطة ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً. هؤلاء الذين صنع لهم اللبنانيون ثرواتهم وجاههم ولوحاتهم الزرقاء وتفاهتهم وتجرأهم على دماء الشهداء. الشهداء الذين بقوا في الظلال خجلاً واستحياء والذين لم يبقَ لنا سواهم كي لا ينسدّ شريان الكرامة وشريان الحياة!
في ذكرى أربعينية شهيد الأمة الأقدس والأسمى السيد حسن نصر الله يستحب تذكير جموع اللبنانيين وهؤلاء الذين اعتبروا ما رددته السفيرة الأميركية عن مهمة سحق حزب الله واقعاً منجزاً، بمقولته الشهيرة: «مَن يعطينا العزة ليس مَن سلبها منا، مَن يمنحنا الكرامة ليس مَن الذي أهدرها، مَن يحفظ عرضنا ليس مَن هتكه، مَن يعيد أرضنا ليس مَن اغتصبها، مَن يرفع راياتنا ليس من حرقها، وإنما، الذي يُعطينا الأمن والسلام والذي يهبنا العزة والكرامة والذي يُعيد إلينا الأرض والعرض والمال والمقدسات، والذي يفرضنا حضوراً ووجوداً قوياً في هذا العالم إسلامنا، ديننا، جهادنا، شهداؤنا، والتزامنا بالله وأولياء الأمر»!
لا ليسوا سواء، ليس مَن تكلّم بلسان الشيطان كمَن تكلّم بلسان الله، وليس مَن مشى بالأوهام على طريق «عوكر» كمَن مشى باليقين والإيمان على طريق القدس، ومَن تهيّأ لصلاة السفارة كمن تهيّأ لصلاة الكرامة، ولا مَن رفع رايات الهزيمة البيضاء كمَن رفع رايات النصر الصفراء!