(الإعلام المأجور والسياسات الضالة)
أ. د فرح موسى: رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية.
لا شك في أن كثيرًا من الإعلاميين والسياسيين، سواء كانوا أحرارًا، أو مأجورين، ليس لديهم اطلاع كافٍ على ما يبيّنه القرآن الكريم في معنى النصر والهزيمة، ولهذا نجدهم يرتجلون المواقف، ويطلقون التصريحات وفق ما يشتهون، أو ما يحبون أن تكون عليه التحولات السياسية، أو العسكرية، ساهين عن حقيقة ما تفيده التجارب الدينية والسياسية الناصعة في ما عايشته الأمم من تجارب وأحداث! فالقرآن الكريم يبين في مواقفه، ومحكم آياته، أن النصر ليس مجرد جائزة تمنح لهذا الطرف، أو ذاك، بل له شروط لا بد من تحققها في واقع الناس، وكذلك الهزيمة، فهي تلحظ في سياق ما تكون عليه الأمم من التزامات وشروط وتحققات روحية ومادية؛ فإذا لم يكن الناس على وعي بما تقتضيه التحولات السياسية والعسكرية، فإنهم سيخسرون حتمًا المعركة وتكون لهم الهزيمة، سواء كانوا مؤمنين، أو كافرين، وهذا ما جرى مع الرسل والأنبياء، وقد بيّن القرآن الكريم حقيقة ما كان عليه الناس في معركة بدر الكبرى، فقال تعالى:” وما النصر إلا من عند الله”، بعد أن تحقق النصر لرسول الله ص وأصحابه في هذه المعركة، فهم كانوا على شروط ومواصفات أهلتهم لأن يكونوا منتصرين على الأعداء،والقوم أنفسهم هم الذين هزموا في معركة أحد، فقال لهم الله تعالى:”وما النصر إلا من عند الله”، بعد أن لحقت بهم الهزيمة في لحظة انكفائهم عن ما أمروا به من قبل النبي ص، وكانت نتيجة المعركة قتل العشرات من أصحاب النبي وجنوده، حتى أن النبي ص كاد يقتل في هذه المعركة، بعد استشهاد عمه حمزة رضوان الله عليه. وهكذا، نجد أنه في حالتي النصر والهزيمة يبيّن القرآن أن النصر من عند الله تعالى، فلا ينبغي لمن لا يفقه معنى النصر في دين الله أن يتحدث عن ذلك، طالما أن الموقف مرهون لما يكون عليه الناس من قابليات واستعدادات لخوض المعركة ضد العدو، فحين يطمع الناس بغنائم الدنيا في أجواء معارك الحق ضد الباطل، فلا بد أن تكون لهم النكسات، إما للتأديب والتربية والامتحان، وإما للمعاقبة على ما بدر منهم من معاصي وآثام، وفي هذه الحالات لا بد أن يتأخر النصر عنهم، لا لأنهم لا يستحقونه، وإنما لكونهم أخلوا ببعض الشروط التي كانوا عليها، فلا يقال لهم سلّموا أسلحتكم، لأنكم تعرضتم للنكسة، أو للهزيمة في معركة الوجود، فالإعلام المأجور، كما نسمعه على أكثر من قناة تلفزيونية، يريد للناس أن يكونوا مهزومين دائمًا أمام أعدائهم، دون اعتبار لموقف الحق وما يمكن أن يعتريه في الطريق إلى النصر! فكل الأديان التي ينطلق منها الناس في التزاماتهم، تعلمهم الاستفادة من تجاربهم الناقصة، وإخفاقاتهم الراهنة، ليكونوا على مستوى ما يحبونه من نصر في مواجهة العدو. أما أن تستغل النكسات في الحروب لمساعدة الأعداء، فهذا مما لا يمكن استساغته ممن اعتاد على الهزيمة دائمًا، أو قبِل أن يكون بوقًا للأعداء في معركة الحق ضد الباطل! فالدين وكل قوانين وتجارب الأمم يتجاوزها هؤلاء المأجورون، وأصحاب السياسات الضالة في ما يشيعونه من أخبار، ويتبنونه من أطروحات دينية وسياسية، وهم أجهل الناس بمقتضيات الحروب وما يلابسها من انتصارات وهزائم ونكسات! فأين هم هؤلاء المأجورون من ثورات الأمم المظلومة، وتجارب الشعوب المقهورة في ما خاضوه من مواجهات مع المستعمرين، حتى ينبري هؤلاء للدفاع عن المحتل والمستعمر؟، ألا يعلم هؤلاء، أن القرآن في ما رسمه من معادلات للحرب، يُخرج الكثرة من الناس من ميدان المعركة، ليجعل الانتصار مخصوصًا بالقلة القليلة من المؤمنين، فهذه تجربة طالوت مع جالوت تظهر أن النصر لم يكن حليف أهل الكثرة ممن ادّعوا الإيمان، بل كان للذين ظنوا أنهم ملاقوا الله تعالى، فقالوا:” كم من فئة قليلة غلبت فئةً كثيرةً”، وقتل داوود جالوت! حتى أن تجارب الأنبياء وأهل الأديان كانت كذلك، وخصوصًا تجربة النبي محمد ص في غزواته الكثيرة، فهو كان ينتصر بالقلة القليلة، كما جرى في بدر، وأحد، والأحزاب، وحنين، الذي قال فيها:” ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغنِ عنكم شيئًا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت، ثم وليتم مدبرين”.فلا بأس أن يُهزم أهل الحق فيما لو كان من مؤديات ذلك التأدب مع الله تعالى، والعمل بكل جدٍ واجتهاد لتلافي أطماع الدنيا، وعدم الاكتراث للغنائم! فالنصر من عند الله تعالى، ويبقى على الناس العمل ليكونوا مستحقين له، فهو نزل بكل قوة في معركة بدر، ولكنه تأخر قليلًا في معركة أحد بانتظار أن يستوعب الناس معنى تخلفهم عن الشروط والمواصفات التي كانت لهم حتمًا في معركة بدر، وانتصروا بها،فجعلها الله تعالى من مواطن المنّ على المؤمنين ، كما قال تعالى:”لقد نصركم الله في مواطن كثيرة…”. إن ما يحتاج إليه إعلامنا في اللحظات الحرجة من صراعنا مع الأعداء، هو التجرّد من عصبية العداوة للحق،! وأن يفقه هذا الإعلام بكل ما يسوّق له من سياسات ضالة، معنى الموضوعية في تناول الأحداث والأنباء، حتى تكون له موازينه المقبولة في مَن يتلقاه ويسمعه،أو يقرأه، فإذا لم تكن للإعلام وظيفة التربية والتعليم ونقل الأخبار الصادقة، فما يكون معناه؛إلا أن يقال عنه:إنه إعلام العمى المعرفي، الذي كانت له تجاربه في تاريخ الأمم والشعوب!، وقد واجهه أهل الحق بكل قوة واقتدار في ما خاضوه من تجارب ضد الباطل. نعم، لا يمكن استيعاب موازين ومعادلات النصر والهزيمة، إلا بلحاظ حقيقة المواقف التي عبر عنها أهل الحق في تجاربهم، بحيث يعلم هؤلاء، أن موازين القوة ليست دائمًا هي المعيار في تحقيق النصر، فقد تكون قويًا وتهزم، كما هزم العدو الصهيوني في أكثر من معركة، وقد تكون على شيء من القوة وتنتصر، وهذه هي تجربة الحق في التاريخ، فالقوة هي شرط من الشروط، وليست كل الشروط، فلينظر الناس إلى ما ينبغي أن يكونوا عليه من الشروط، كما قال تعالى في بيانها:”يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئةً فاثبتوا، واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون، وأطيعوا الله ورسولَه، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين”، هذه هي الشروط والمواصفات التي نحتاج إليها، لتحقيق النصر،ولو أن العرب والمسلمين توفروا عليها، لم تخلف النصر عنهم، ولكنهم تنازعوا، ولم يذكروا الله إلا في طلب الغنائم! أما الذين انتصروا، فهم الذين منعوا العدو من احتلال بلادهم، رغم تعرّضهم لأبشع المؤامرات والتشويهات الإعلامية ممن أتقنوا فن التكاذب ليس على المجاهدين فحسب، وإنما على الله ورسوله! فهؤلاء لا يرون النصر إلا في تدمير العدو بشكل كامل، أما أن تواجهه وتمنعه من الاحتلال والتوسع، فهذا ليس من النصر عند من اعتاد على الحمق والجهل في دراسة الأحداث والتجارب، فاستحالت عليه الأحكام، وتاهت عنه الأمانيّ والأحلام! فالعدو يخشى أهل الجهاد، وأهل الجهل والضلالة في الإعلام والسياسة يسوّغون له الانتصار على أنقاض الكرامة والسيادة والحرية والاستقلال، وكما قال تعالى:”وهل بعد الحق إلا الضلال”. والسلام.