اللبنانيون رهائن الوعود الكاذبة وضحايا العقول التالفة

 

أ.د.فرح موسى:رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية.

يسأل كثيرون عن أسباب تردي الوضع اللبناني في السياسة والاقتصاد،والثقافة،وفي كل شأن حياتي،ولا شك في أن هؤلاء،وأعني كل من يسأل،تكفيهم أدنى مراجعة لتاريخ أحداث لبنان،ليعلموا أن مشكلتهم ليست في التدبير السياسي لشؤونهم،وإنما هي في انعدام الموازين العقلية لديهم،وانهدام منظومة الوعي في كل ما تعنيه روحية تفاعلهم الإنساني والحضاري…! فاللبناني،كل لبناني،سواء كان مقيمًا،أو مغتربًا، يعي حقيقة المشكلة،ويعتقد جازمًا أن الخطر محدقُ به،لا لكونه يحمل سلاحًا،أو يقاوم عدوًا،وإنما لكونه يعيش أزمة فكر ورؤية في ذاته،ولا يتعقّل معنى وجوده في وطن حتّمت عليه سنن التاريخ،بل سنن التكوين أن يكون متعددًا ومتنوعًا في دينه،وطائفته،ومذهبه،فلا يسعه إلا أن يكون متفاعلًا فيما لو أراد وجودًا وحضورًا في عالم تتقاذفه أمواج الفتن ،وتتجاذبه بروق المطامع والبدع!وقد قال الإمام الصدر ذات يوم في خطاب القلق على لبنان،عام١٩٦٩م:”إن الخطر على الأمة وعلى لبنان بالذات نابع من داخل هذه الأمة،كالطائفية والفئوية،أى في العقلية التي يحملها بعضنا.علينا التطور عقليًا،دولةً،وشعبًا،وإلا فلبنان يحتضر…”،!!!

وهنا يبدو لنا السؤال ملحًا،بعد مرور نصف قرن من الزمان على هذا الكلام،هل تطور اللبناني عقليًا،وفكريًا،دولةً وشعبًا،لتلافي الخطر المحدق بالوطن؟وماذا عن السياسة والطائفية التي لا تزال تُحدث فعلها السلبي في تقسيم البلاد والعباد وتجاهل الأعداء؟إنه سؤال ملح وضاغط على العقل اللبناني وتفكير اللبنانيين،ويمكن لنا تعقّل الأحداث في ضوء ما نسمعه اليوم من خطابات سياسية ودينية تجافي العقل،وتريد استحضار كل التجارب المريرة التي عايشها اللبنانيون،وكانت سببًا في موتهم السياسي،والتفاعلي والوجودي!خطابات تستحضر الخطر ولا تأخذ بالأسباب الحقيقية لمواجتهه،فلا يزال الحاكم اللبناني،وقبله المفكر الديني والسياسي،فهؤلاء جميعًا يفكرون،ويقودون البلاد بوحي من وعود الخارج لهم،تمامًا كما كانوا قبل قرن من الزمن،حتى باتوا رهائن الوعود الكاذبة،والعقول التالفة!فهل صحيح،أن تصدير الثورة الإيرانية انتهى إلى غير رجعة،وأن لبنان عازم على إنهاء ثنائية السلاح،وأن العالم كله يحضر إلى لبنان على وقع الإصلاحات والمطالبة بحصرية السلاح !!فيا للعجب،وطنٌ يحرّر بالمقاومة،ويحتفل فيه بعيد التحرير،ودولة مترهلة إلى حد الموت السياسي والاقتصادي،والعسكري،ثم يأتي مَن يقول:إن لبنان دخل في زمن العافية العربية! وكأن العرب في عافية وأمان وسلام!إن فاقد الشيء لا يعطيه،ومَن لا يملك قدرة التعافي الذاتي،لا يمكن المراهنة عليه في تعزيز الروح الوطنية.فالكل محكوم لإرادة الخارج،ويريد النجاة بنفسه من سطوة الغضب الأجنبية!فكم حريٌ بهؤلاء أن يتعقّلوا معنى السياسة الحكيمة في تدبير شؤون الوطن والمواطن،بحيث يكون منهم الوعي الكافي لما يحيط بهم من أخطار،فلو كان الحاكم اللبناني مجردًا من عوامل قوته طيلة السنوات الماضية،لما كان له أي معنى في دوائر القرار العالمية.فالسياسة ليست عملًا ارتجاليًا،أو مجرد فن في التكاذب!على أبواب مَن لا يملكون شيئًا من إدارة شؤون بلادهم!فالتعقل،والتفكير المنطقي،يقضيان على كل مسؤول التحلي بالحكمة والوعي،فلا يراهن على الوعود الكاذبة لا سيما تلك الوعود الوافدة على أطباق المذلة وفرضية تحقق الهزيمة!،فقول الإمام الصدر “علينا التطور عقليًا..”،مفاده النظر إلى ما تحتاج إليه البلاد من حكمة وبصيرة،وخصوصًا في مجال القوة والدفاع،بحيث تحفظ للبلاد عوامل قوتها في مواجهة الأعداء،فلماذا المناورة السياسية،أو التكاذب في سياق الحديث عن حصرية السلاح،وهناك جزءٌ عزيزٌ من لبنان لا يزالُ محتلًا؟فهل أنتم تملكون القدرة،أو الدبلوماسية اللازمة لضمانة تحرير الوطن،أو حماية السيادة!؟أم أنه مسموحٌ لكم امتلاك السلاح والمال للدفاع عن وطنكم؟ألم تعهدوا من الخارج كل الكذب والنفاق في ما كان يعدكم به من دعم لمواجهة الأخطار المحدقة بالوطن؟أم أنكم لا زلتم تجهلون مطامع العدو في وطنكم،برًا وبحرًا؟كيف يمكن لعقل اكتمل بكل هذه التجارب تصديق مزاعمكم بأن لبنان تنتظره تحولات عظمى في التحرير والإعمار،فضلاً عن بناء الدولة ومساعدتها في بسط السيادة وتحقيق العدالة؟كلها أسئلة برسم أولئك الذين ادّعوا زورًا ونفاقًا أن حصرية السلاح تخدم وطنهم،أو تحرّر بلادهم.فكمال العقل كامنٌ في تفاعل اللبنانيين لإنتاج قوتهم الذاتية،وعدم الاعتماد على من تلفت عقولهم في الفئوية والطائفية!فإذا ما تجاوز اللبنانيون مخاطر الداخل،فإنه يمكنهم المفاوضة والمقاومة معًا،لأنه لا ضمانة للأوطان من خارج قواها الذاتية.وكم هو الأسى كبير،والأسف بالغ،أن نسمع من حمقى السياسة والإعلام أن لبنان تنتظره فرصة النهوض فيما لو تخلى عن مقاومته،واعتمد على دبلوماسية التكاذب الدولي لتحرير البلاد والعباد!إن مَن لا يتّعظ من التجارب ويتجاهل أحداث بلاده في ما أدّت إليه من بلايا ومساوىء سياسية واقتصادية،لا يمكن المراهنة عليه في إدارة شؤون العباد والبلاد،لأن انعدام التجربة هو في جوهره انعدام في العقل،وانثلام في المسؤولية،وكما يقول الإمام الصدر:”إن العلاج يكمن في السمو في التفكير،والتوسع في المسؤولية…يقول الإمام:إنني أنذر من الوصول إلى النهاية،ونحن أكثر قلقًا على لبنان..”،فيا ليت القوم يعلمون،ولا أظنهم كذلك،معنى أن يكون الوطن أمانة ومسؤولية،وحكمة سياسية والتزام إيماني،فلو توفر لهم كل هذا في عقولهم،لاستطاعوا أن يفرضوا على العالم كله قوة بلادهم،وحكمة عقولهم،بدل هذا الذي نراه من ترهل ومجاهيل في تردى الطائفية اللبنانية، التي باتت تشكّل أعظم كارثة على الوطن والمواطن.. والسلام.