كتبت صحيفة “الجمهورية”: غيومٌ كثيفة تغطي أجواء منطقة الشرق الأوسط برمّتها، وتَحجب ما يُحضّر لها في الخفاء على موائد الدول الكبرى، من مفاجآت تُشرّع ساحاتها لاحتمالات خطيرة ومتغيّرات دراماتيكية وربّما إعادة ترسيم حدود دولها. المشهد الفلسطيني ساحة مفتوحة على مزيد من الاشتعال، وما يُحكى عن مبادرات وخطط لوقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لا يعدو كونه أكثر من حبر على ورق. والمشهد الإيراني عاد مجدّداً ليحتل صدارة الأحداث، وغليانه المتصاعد، تتفق قراءات المحلّلين على أنّه يقترب من لحظة إشعال شرارة حرب جديدة أقسى وأشدّ من حرب حزيران الماضي. وفي موازاة ذلك، مشهد لبناني في ذروة التخبّط والإرباك، وأقلّ ما يُقال فيه إنّه عالق في دائرة التلّهي بالصغائر، تحت رحمة مكوّنات سياسية لا ترى أبعد من أنفها، وقزّمت الوطن على مقاس مصالحها، ثبت للقاصي والداني في العالم احترافها افتعال الإشكالات والتنقل من اشتباك إلى اشتباك وإبقاء البلد مخنوقاً بحبل نزواتها وشهواتها.
لقاء الرئيسَين
محطات الاشتباك بين هذه المكوّنات لا تُحصى، منها ما هو دائم كما هو الحال حول «حرب الإسناد»، ومنها ما هو معلّق حتى إشعار آخر وقابل لإعادة الإشعال عندما تدعو الحاجة لذلك، وهذا ينسحب على الإشتباك العنيف حول قرارَي الحكومة بسحب سلاح «حزب الله» والموافقة على ورقة توم برّاك، وكذلك على «أزمة الصخرة» بين رئيس الحكومة و«حزب الله»، التي لم تنتهِ فصولاً حتى الآن.
المستجدات الأخيرة كانت محل بحث بين رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، العائد حديثاً من نيويورك بعد مشاركته في اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، في القصر الجمهوري في بعبدا. وأكّد بري بعد اللقاء: «كالعادة كان اللقاء مع فخامة الرئيس ممتازاً، عرضنا فيه مواضيع الساعة، وأطلعني على نتائج اللقاءات التي عقدها في نيويورك، ووضعته في جَوّ ما حصل في بيروت قبل أيام».
ورداً على سؤال عمّا إذا كانت الأمور تتّجه نحو الأفضل، أجاب الرئيس بري: «إن شاء الله خير».
وسام لقائد الجيش
واستقبل الرئيس عون أيضاً، قائد الجيش العماد رودولف هيكل. واللافت في هذا اللقاء كانت مبادرة الرئيس عون إلى تقليد العماد هيكل وسام الأرز الوطني من رتبة الوشاح الأكبر تقديراً لعطاءاته وللمهام القيادية التي يتوَلّاها. وذلك بالتزامن مع موقف بارز لرئيس الجمهورية «داعم بقوّة للجيش وللسلم الأهلي»، مؤكّداً أمام زوّاره «أنّ السلم الأهلي يبقى أسمى من أي اعتبارات»، مشدّداً على «أنّ من واجب الجيش والقوى الأمنية المحافظة عليه، وهي تقوم بواجبها كاملاً لتحقيق هذا الهدف الذي يُشكّل خطاً أحمر. لولا سهر الجيش والقوى الأمنية على أمن المواطنين وسلامتهم وحماية المجتمع اللبناني بكل مكوّناته، لما استعاد لبنان أمانه واستقراره، ولما كنّا اليوم معاً».
كما أكّد عون على أنّه «ليس من المقبول توجيه الإنتقاد أو الاستهداف إلى الجيش والقوى الأمنية»، مشدّداً على «أنّهما خط أحمر لا يجوز المسّ به. إنّ الجيش والقوى الأمنية يعملان بتنسيق كامل وتعاون مطلق، ويكافحان الإرهاب والجريمة المنظّمة وتهريب المخدّرات، ويؤدّيان المهام الأمنية الموكلة إليهما بكل التزام ومسؤولية».
ساحة مزايدات
آخر محطات الاشتباك المفتعل بين المكوّنات الداخلية – وربما ليست الأخيرة في هذا الجو الداخلي المنقسم على ذاته – كانت بالأمس على حلبة الملف الإنتخابي، مع تحوّل الجلسة التشريعية لمجلس النواب، إلى حفلة مزايدات عبثية حول القانون الإنتخابي وتراشق الاتهامات بتطيير الانتخابات النيابية، التي يُفترَض أن تجري خلال الـ60 يوماً السابقة لانتهاء ولاية المجلس الحالي في 31 أيار المقبل، أي بين شهرَي نيسان وأيار المقبلَين.
ما جرى في مجلس النواب خلال جلسة التشريع أمس، قدّم صورة مصغّرة تمهيدية للمعركة السياسية القاسية الواقعة حتماً على حلبة الملف الإنتخابي، وكانت واضحة للعيان الحملة المنظّمة شكلاً ومضموناً من قِبل جهات نيابية قواتية وكتائبية وسيادية وتغييرية، لفرض تعديل القانون الإنتخابي النافذ، بما يمنح المغتربين حق الإنتخاب لكل أعضاء المجلس النيابي، وليس حصر هذا الحق بالنواب الـ6 على مستوى القارات الـ6. وكانت لافتة ملاحظة أبداها رئيس مجلس النواب نبيه بري إزاء ما يثار حول الموضوع الانتخابي: «كفى محاولات لتجاوز قانون الإنتخاب الحالي».
مَن جرَّب المُجرّب
وإذا كانت حفلة الأمس قد أفضت إلى انسحابات قواتية وكتائبية من جلسة التشريع، بالإضافة إلى تعليق «القوات» مشاركتها في اجتماعات اللجنة المعنية بحث الملف الإنتخابي وبعض التعديلات المقترحة، وذلك كتعبير اعتراضي على عدم استجابة رئاسة المجلس لمطلبها بطرح التعديل المقترح حول المغتربين على مائدة الدرس والإقرار في الهيئة العامة، إلّا أنّ مرجعاً كبيراً أبلغ إلى «الجمهورية»، أنّ «إصرار هذه الجهات النيابية على طرح هذا الأمر في هذا التوقيت، وقفزها فوق المهمّة المولجة باللجنة النيابية المعنية بدراسة الملف الإنتخابي وما يُحيط به من اقتراحات وتعديلات، هو أمر مستغرب حتى لا أقول إنّه مريب، ولا أستبعد أنّه يُخفي رغبة في التصعيد السياسي حول القانون الإنتخابي لتطيير الإنتخابات».
ولفت المسؤول عينه إلى «أنّ الطريقة التي تُطرح فيها الأمور تنمّ عن رغبة جامحة من قِبل بعض الأطراف لفرض إرادتها على كلّ المكوّنات السياسية في البلد. فهناك قانون نافذ بصرف النظر عن مضمونه، وتعديله ممكن وحق للنواب من كلّ الاتجاهات، لكن ليس بهذه الطريقة الاستعلائية تُطرَح التعديلات. ثم ليس خافياً على أحد أنّ تصويت المغتربين لكل أعضاء المجلس ثَبُتَ أنّه لا يُحقّق العدالة، ويَصبّ في مصلحة أطراف دون غيرهم، ومن هنا تصويت المغتربين تجرّب في الانتخابات التي أنتجت المجلس النيابي الحالي، ومَن جرَّب المجرّب كان عقلو مخرّب».
وفي موازاة الأصوات النيابية التي ارتفعت من جهات سياسية مختلفة لتأكيد حق المغتربين بالتصويت لكل أعضاء المجلس النيابي، وتُلقي باللائمة على رئاسة المجلس النيابي تحديداً في قطع الطريق على إرادة الشريحة الواسعة من النواب التي تنتصر لهذا الحق، أكّدت مصادر مسؤولة لـ«الجمهورية»، «أنّ الساحة البرلمانية مقبلة على اشتباك كبير، من الصعب التكهّن بمجرياته مسبقاً أو بالاحتمالات التي ستترتب عليه، ومن ضمنها احتمال أن يؤدّي هذا الإشتباك إلى خلق ظروف تفرض تأجيل الإنتخابات، وبالتالي التمديد للمجلس النيابي لسنة أو سنتَين».
لا تأجيل
إلّا أنّ مسؤولاً رفيعاً أكّد لـ«الجمهورية»، أنّ «لا تأجيل للإنتخابات ولو ليوم واحد، بل ستجري في موعدها، والحكومة، ولاسيما وزارة الداخلية، تؤكّد جهوزيّتها لإتمام هذا الاستحقاق في موعده، فهناك قانون انتخابي نافذ يحتاج إلى تعديلات طفيفة، وليس هناك ما يمنع إجراء الانتخابات النيابية في موعدها وفق أحكامه».
وشدّد المسؤول الرفيع على «أنّ المزايدات لن توصل إلى أيّ مكان». ولفت إلى «أنّ الصخب المفتعل حول موضوع المغتربين مصدره أطراف قلقة مسبقاً من تناقص حجمها النيابي الذي نفخه تصويت المغتربين في الانتخابات السابقة، ومصدره أيضاً أطراف وضعت لنفسها أجندة استثمار على القانون الإنتخابي، والسعي إلى تطويعه على النحو الذي يمكنها من تعديل الميزان الإنتخابي لمصلحتها، ويجعل كلمتها هي العليا، لاسيما في الإستحقاقات الكبرى الحكومية، وحصراً في الاستحقاق المتعلّق برئاسة مجلس النواب، وليس في استحقاق رئاسة الجمهورية، إذ تنتهي ولاية المجلس النيابي المقبل قبل نهاية ولاية رئيس الجمهورية بـ7 أشهر. من هنا فإنّ الحماسة على حق المغتربين بالتصويت لكل المجلس تُعبّر عن هدف وحيد ومكشوف لهذه الأطراف، وهو الإستعانة بأصوات المغتربين لتحقيق أكثرية تمكنهم من التحكّم بانتخاب رئيس مجلس النواب، وبالتالي الإمساك بهذا الموقع، هذه هي معركتهم الحقيقية، وليس تأكيد حق المغتربين بالتصويت، كما يقولون».
وعدم تأجيل الإنتخابات أكّده وزير الداخلية أحمد الحجار في تصريح له في مجلس النواب: «إنّ الإنتخابات النيابية ستكون في وقتها، في أيار 2026. الكلام عن عدم تطبيق عملية الإنتخاب والترشيح للمنتشرين هو ساقط، وعلى الحكومة أن تبدأ بالتسجيل لتسقط كل التصاريح عن تأجيل الإنتخابات النيابية في 2026. عرَضنا تقريراً تضمّن التحدّيات التي تواجه تطبيق القانون ولم يُقَرّ قانون جديد، وبالتالي على وزير الداخلية تطبيق القانون الموجود والإلتزام مع وزارة الخارجية بتاريخ التسجيل. أمّا بالنسبة إلى تسجيل المغتربين فإنّ المهلة الأولى تبدأ في 20 تشرين الثاني».
الجلسة
انعقدت الجلسة أمس برئاسة رئيس مجلس النواب نبيه بري وحضور رئيس الحكومة والوزراء، وسبقها اجتماع قصير بين بري وسلام، وانتهت إلى إقرار مجموعة من البنود، وتقرّر أن تُعقَد جلسة تشريعية ثانية قبل ظهر اليوم.
ويُشار إلى أنّه بعد افتتاح جلسة الأمس، جرى نقاش نيابي تمحوَر في جانب منه حول الإشتباك الأخير في الروشة وما رافقه من التباسات واتهامات واستفزازات، وعبّر بعض النواب عن تضامنهم مع رئيس الحكومة، وانتقدوا التصويب عليه، فردّ رئيس المجلس على هذه المداخلات قائلاً: «إنّ رئيس الحكومة هو رئيس حكومة كل لبنان، والحكومة ليست حكومة شخص أو طرف بعينه، بل هي حكومة يشترك فيها الجميع».
وخاطب النواب قائلاً: «خافوا الله يا جماعة، الحكومة ليست حكومة واحد أو اثنَين، بل هي حكومة كلّ اللبنانيِّين، والجميع معنيّون بالمشاركة في مسؤولية الحُكم».
وفيما أعلنت كتلة حزب «الكتائب» انسحابها من الجلسة اعتراضاً على عدم طرح اقتراح تعديل قانون الإنتخابات، حصل إشكال بعدما أعلن النائب جورج عدوان تعليق مشاركة نواب كتلة «الجمهورية القوية» في اللجنة الفرعية لدراسة قانون الإنتخاب النيابية، فردّ عليه النائب علي حسن خليل: «واضح إنّو الأخوان بدّن يطيّروا الانتخابات». فصفّق له بعض النواب تهكّماً، فردّ النائب علي حسن خليل: «في تقليل أدب، كل واحد يحترم حالو». ووسط هذه البلبلة تدخّل الرئيس بري قائلاً: «إذا ما بدكم تشرّعوا برفع الجلسة».
اتفاق غزة
أعلن البيت الأبيض أمس، خطة شاملة لوقف الحرب في غزة، تقوم أولاً على وقف فوري لإطلاق النار وتجميد خطوط القتال، تمهيداً لانسحاب تدريجي للقوات الإسرائيلية وفق معايير زمنية وأمنية محدّدة. وتُلزم الخطة «حماس» بإعادة جميع الرهائن خلال 72 ساعة من قبولها الاتفاق، مقابل الإفراج عن مئات الأسرى الفلسطينيين، بينهم نساء وأطفال، إضافة إلى تبادل للجثامين.
الشق الأمني يتضمن نزع سلاح غزة بالكامل وتدمير الأنفاق والبنية التحتية العسكرية، تحت إشراف مراقبين مستقلين وبرنامج دولي لإعادة الدمج. وتمنح الخطة أعضاء «حماس» خيار العفو إذا التزموا بالتعايش السلمي أو ممرات آمنة للخروج من القطاع.
في المقابل، تفتح الخطة الباب أمام إعمار واسع لغزة، يشمل إعادة تأهيل البنية التحتية والخدمات الأساسية، وإقامة منطقة اقتصادية خاصة، وجذب استثمارات عبر خطة تنموية يشرف عليها فريق دولي بقيادة الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وستتولّى إدارة القطاع موقتاً لجنة تكنوقراطية فلسطينية غير سياسية بإشراف «مجلس السلام» الدولي الذي يرأسه ترامب، إلى حين استكمال السلطة الفلسطينية برنامجها الإصلاحي.
ولتأمين المرحلة الانتقالية، تنص الخطة على نشر قوة استقرار دولية بمشاركة عربية، لتدريب الشرطة الفلسطينية ومنع تهريب السلاح، مع ضمانات إقليمية بأنّ غزة الجديدة لن تشكّل تهديداً لإسرائيل أو مصر. وتتضمن الخطة أيضاً إطلاق حوار سياسي وديني يهدف إلى ترسيخ ثقافة التعايش، وفتح أفق نحو تقرير المصير الفلسطيني وإقامة الدولة، بما يحقق طموحات الفلسطينيين ويضمن لإسرائيل ومصر الأمن على حدّ سواء.