| فاتنة علي |
المفاهيم… هل نحن بحاجة إلى إعادة تعريفها؟
حين تصبح اللغة ساحة معركة
منذ السابع من أكتوبر، شهدنا انفجاراً في المشاعر والوعي، ورافقه انفجار آخر في اللغة. فقد برزت مصطلحات وشعارات أطلقها ناشطون من كل مكان، تعبّر عن الغضب والخذلان، مثل: #أمة_المليار_ميت و#الأمة_الهبلة، وغيرها من الوسوم التي اجتاحت الفضاء الرقمي كصرخة في وجه الصمت.
لكن، هل فعلاً الأمة كما توصف؟ أم أن الصورة أعقد من ذلك بكثير، تحكمها منظومات إعلامية مضلّلة وأنظمة قمعية أحكمت قبضتها على وعي الشعوب قبل حريتها؟
نحن، دون أن ننتبه، نقع في فخ التعميم. نستاء من العرب والمسلمين، نلعن العروبة ونعلن اليأس من الأمة. وهذا الشعور، وإن كان مفهوماً ومشروعاً في ظل مشاهد المجازر والدمار والجوع في غزة، إلا أنه يحتاج إلى ضبط ووعي. فالغضب لا يعني أن نجلد ذواتنا، ولا أن نختزل أمة كاملة في موقف خائن أو صوت ساكت.
فمن الطبيعي أن يستفزّنا هذا البرود، وأن نصرخ بحثاً عن انتفاضة، عن وجع يشبه وجعنا. لكن حين تغيب ردود الفعل أو تأتي خجولة، علينا أن نسأل لماذا؟ لا أن نحكم.
فالتخدير الإعلامي، وتكميم الأفواه، وتجريم المواقف، عوامل صنعت جداراً عازلاً بين ما يشعر به الناس فعلاً، وما يُسمح لهم بإظهاره. ورغم ذلك، هناك من تحرك، من كسر هذا الجدار، ومن رفض الصمت.
انظر مثلاً إلى السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي في اليمن، الثائر العربي الذي جعل من موقفه نصرة للمظلومين، وإلى السيد حسن نصر الله، الشهيد الجنوبي العظيم الذي اختار أن يكون حيث يجب أن يكون، وإلى الأردنيين الذين حاولوا كسر القيود والتعبير عن رفضهم رغم القمع.
هؤلاء أمثلة فقط، وهناك كثير من الأحرار في عالمنا العربي. وعلى صعيد الدول، إيران كانت حاضرة بثبات موقفها ودعمها، وفي المقابل، نرى أفراداً من الجاليات العربية والإسلامية في الغرب يتحركون وينظمون، بل ويقودون المظاهرات، ويحفزون الشارع الغربي نفسه على الانتفاض من أجل غزة.
إذن، الذنب ليس في الإسلام ولا في العروبة.
فالقرآن نزل بلسان عربي، ومبادئه قامت على العدل والكرامة والحرية.
المشكلة ليست في القيم، بل في من خانها، في من ارتضى الصمت والخنوع، في من بدّل العزّة بالذلّ.
وفي المقابل، ما زال هناك من أصرّ أن يكون حرّاً، وأن يصرخ حتى لو كان وحيداً. بل إننا شهدنا من أحرق نفسه في الغرب ليقول للعالم إن الصمت جريمة، وإن المظلومية لا تعرف حدود الدين والعرق واللغة.
نعم، نحن بحاجة إلى إعادة تعريف المفاهيم.
بحاجة لأن نميّز بين من خذل وبين من قاوم، بين من غاب بإرادته ومن غُيّب قسراً.
وبحاجة إلى أن ندرك أن التحرر لا يبدأ من الجماهير، بل من الفرد.
الفرد هو النواة الأولى للإصلاح المجتمعي، لأي دين أو طائفة أو عرق انتمى. فإما أن يكون حرّاً في قراره وموقفه، أو عبداً للمنظومة التي تشكّل وعيه.
ويبقى السؤال المفتوح:
هل الأخلاق والمبادئ حكر على شعب دون آخر؟
وهل جاءت رسالات السماء لتخاطب قوماً بعينهم؟
ألم يقل الله عن نبيّه ﷺ: “وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين”؟
إذن، الرسالة إنسانية شاملة، لا تخص أمة بعينها، بل تحمّل كل إنسان مسؤولية أن يكون صوتاً للحق.
إن ما نحتاجه اليوم هو وعي يعيد إنتاج جيلٍ غُيّب عمداً، وضلّل عمداً، وأُبعد عن جوهر القيم وتاه في سطحية الشعارات.
جيلٌ يعيد تعريف الكرامة، ويُرجع المفاهيم إلى معناها الأصيل: أن تكون حراً، صادقاً، مؤمناً بعدالة قضيتك، وأن تدرك أن كل صمت أمام الظلم مشاركة فيه.
فالمعركة اليوم ليست فقط في الميدان، بل أيضاً في الوعي.
ومن يعيد تعريف المفاهيم… يعيد تشكيل التاريخ.