| رنا الساحلي |
لم يكن يوماً هادئاً.. أن تعمل في الاعلام، يعني أن كل يوم ضخٌّ كبير من الأحداث والمعطيات التي تحصل، بصورة خاصة أن الجبهة الجنوبية ليست مستقرة.
ذاك اليوم كنا نتجهز لإعداد محاضرة إعلامية متخصصة عن الحرب. ربما هو ذا دورنا في تلك اللحظات. أن نفهم إعلامياً ما يحصل في موقع القرار الأميركي والإسرائيلي، وأن ندافع عن أرضنا وحقوقنا وإنسانيتنا قبل كل شيء.
ذاك اليوم، كان الحاج محمد متعباً بسبب نزلة برد ألمت بجسده.. ذهب باكراً إلى المنزل ليرتاح قليلاً.
اتصال من المدير الإداري يخبرني أن الـ”بيجر” باتت في عهدته .
حسناً سآخذها بعد اجتماع محدد مسبقاً…
لماذا؟ لست أدري…
عدت إلى العمل. كانت الساعة تشير إلى الثالثة والنصف تقريباً.. دقائق معدودة صوت يشبه انطلاق رصاصة، لكن أقوى، سمعته أنا وزملائي …
حضر زميلي الحاج موسى، الذي استشهد في ما بعد في الغارة رأس النبع، وقال “هل سمعتي؟”. بحثنا عن مصدر الصوت، وكانت المفاجأة: كرسي أسود وفجوة في وسطه، فيما أوراق ممزقة مبعثرة تملأ الغرفة، وبقايا من جرائد محترقة التصقت في سقف الغرفة.
صمت وذهول اعترى المكان… ما هذا؟ وكيف حصل؟!
ثوان ثقيلة مرت…
اتجهت مجدداً إلى غرفتي لأتصل بالأخوة المعنيين. وحدها عقارب الساعة كانت تشعر أنها تتحرك، فيما توقف عندنا كل شيء. ارتبك الأخ الذي كان معي على الهاتف..
ربما هي بعض من لحظات الضياع.. ما الذي حصل؟ خاصه أن الاتصالات التي انهالت على مكتبنا تسأل هل هناك مسلح في الطريق؟ هجوم على المنطقة؟ من يقتل من؟ شباب تقع على الأرض…
بلحظة انكشفت جريمة كونية “بطلها” وحش كاسر لا يفقه معنى الإنسان أو القوانين والأعراف.
صوت أوجاع هز الأرجاء. أمامي خمسة شباب بعمر الورود. وجه أحدهم مغطى بالدماء لم تتضح ملامحه، وآخر أصابعه مبتورة تسيل منها ورود زرعت على طول الطريق وصولاً إلى سيارة الإسعاف، وآخر كانت تتجمع بركة من اللون القاني في حضنه وكأنه يعيد مشهد كربلاء بشكل مختصر …
“حاج محمد… أين جهازك؟”. كان الحاج لا يزال مريضاً. فقال لي إنه في “الشنطة” الصغيرة. “حسنا ابتعد عنها ولا تقترب”. لم ينتبه الحاج بسبب مرضه إلى هول الخبر. ظنّ أنه حادث عرضي… “حسنا سأزيل الأغراض من الشنطة وأبعدها”… “يا حاج، البيجر يتفجّر وكأنه صواعق ويقتل الناس”… شاءت الأقدار أن تكون هذه “البيجر” قديمه فلم تنفجر …
توالت الاخبار وكأننا بتنا في فيلم طويل لم نستطع أن نخرج منه إلا بعد ساعات عديدة…
هل التفكير الإجرامي يصل إلى اللاحدود؟!
من يمكن أن يرتكب جرائم تفوق الخيال وكأنها صنعت بالذكاء الاصطناعي؟ فيلم أميركي استخباراتي طويل!
أثقلت المهمة… آلاف الجرحى، من مدنيين وأطفال ونساء، كانوا أمام أعيننا، من البقاع إلى الضاحية والجنوب، امتلأت المستشفيات..
مشاهد المذبحة رأيناها بأم أعيننا: طفل هنا.. صبية لم تتجاوز العشرين هناك… مسعف ظنّ أن نداء الاستغاثة يطلبه فبات هو المصاب…
مر الوقت بليداً كسحابة سوداء مثقلة بالهموم… هل استوعبنا المجزرة؟ نعم… كانت بقايانا لازالت مبعثرة، تائهة، وكأننا في الصحراء.. هائمة كعاشق يبحث عن محبوبته.
لكن استطعنا أن نتجاوز ذاك النفق…
تألمنا، نعم. بكينا، نعم.. لكن هذه الأوجاع لم توقفنا، فخلف كل ندبة بقيت حكايا لا يمكن إلا أن تسجل في تاريخ الأمة.
لقد بكينا جميعاً… حشرجة صوت الحاج محمد عفيف كانت وكأن كل أولاده كانوا في ذاك المكان على امتداد الوطن… أجساد عديدة لكن روح واحدة… في تلك الليلة بكى والدنا سماحة السيد، وهذا ما أوجعنا أكثر من تلك الإصابات.
يا ليتنا كنا فداك يا بلسماً لكل جراحاتنا…
صديق هنا، قريب هناك، زميل كان معنا في الدراسة… أكثر البيوت كانت مصابة. لم نستطع أن نطمئن على كل من نعرفه، ولا زلنا نتفاجأ بالبعض الآخر حتى كتابة هذه الكلمات…
امتشقنا سلاحنا مجدداً، بعدما ظن العدو أنه انتصر علينا بخديعته وجبنه وتفكيره الذي تجاوز إبليس في المكر…
حسناً.. كل في موقعه. نحن الإعلاميون سنرفع صوتنا في كل المنابر الإعلامية. سنرفع صور جرحانا، أولئك الأبطال الذين سارعوا إلى ساحات جهادهم، كل في عمله… هنا طبيب، وهنا مسعف، وهنا شاب كان يحلم أن يكمل تخصصه فاستهدفه حقدهم، وهنا صبية كانت تحلم بفستان زفافها فأحرق العدو أناملها كفراشه حلّقت أمام النور.
ثمانية عشر شهيداً وآلاف الجرحى كانوا حصيلة تلك المجزرة المذبحة.
تعافَينا ونَفَضْنَا غبار حقدهم الأسود لنكون أقوى وأثبت. لم تهزمنا مكائدهم. لم تكسرنا مؤامراتهم. كنا في قلب المعركة. واجهنا، صمدنا، وسنبقى نحمي بأعيننا كل المقاومين لاستعادة كل شبر من الوطن… تعافَينا، وستبقى جراحهم دليلاً أننا قوم لا نهزم، قوم استطاعوا أن يعزفوا بآلامهم لحن حرية بلاد لن تنسى ولن تُستباح…