ماذا لو قبلت المقاومة بما عرضه الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح؟

| خضر رسلان | كاتب وإعلامي لبناني

 

ماذا لو قال الأمين العام لحزب الله يومها: «نعم»؟

ماذا لو قُبل العرض الأميركي الذي نُقل عبر الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح، بعد تحرير عام 2000 وقبل عدوان عام 2006، والقاضي برعاية تفاهمٍ سياسي إقليمي بين الولايات المتحدة وقوى شيعية فاعلة، تضمن فيه واشنطن لهذه القوى حصة وازنة من السلطة والنفوذ في لبنان وسورية والعراق، مع تعزيز الموقع الإقليمي لإيران، مقابل شرطٍ واحد فقط: رفع اليد عن القضية الفلسطينية؟

هو سؤالٌ افتراضي، لكنه ليس ترفاً فكرياً، ولا محاولة لإعادة كتابة التاريخ، بقدر ما هو مدخلٌ تحليلي لفهم ما جرى ولماذا جرى. فبعض الأسئلة الافتراضية لا تهدف إلى تغيير الماضي، بل إلى تفكيك الخيارات التي كانت مطروحة، وإدراك كلفة كلّ خيار، وما كان سيترتب عليه على المديين القريب والبعيد.

لو حصل ذلك التفاهم، لربما كنا أمام شرق أوسط مختلف في شكله العام. ربما أُديرت الصراعات بأدوات سياسية أكثر انتظاماً، وربما جرى احتواء التوترات ضمن تفاهمات دولية وإقليمية أوسع، ورُسمت خرائط نفوذ أكثر «هدوءاً» وأقلّ كلفة على القوى الكبرى. وربما أُعيد تأهيل أنظمة كانت موضع نزاع، وتحوّلت من ساحات صراع مفتوح إلى أطراف شريكة في ترتيبات جديدة، وربما تقلّصت أدوار إقليمية معيّنة، أو أُعيد ضبطها ضمن توازنات مختلفة.

لكن السؤال الأهم، الذي لا يمكن القفز فوقه، يبقى: أيّ مضمون كان سيبقى؟ وأيّ معنى كان سيظلّ قائماً إذا جرى التعامل مع القضايا المركزية بوصفها ملفات تفاوضية قابلة للتأجيل، لا بوصفها جوهر الصراع ومعياره الأخلاقي والسياسي؟

الثمن في هذه الحالة لم يكن تفصيلياً أو شكلياً. لم يكن تعديل خطاب، ولا تخفيف لهجة، ولا إعادة ترتيب أولويات ظرفية. بل كان التخلي عن جوهر الصراع نفسه: عن فلسطين باعتبارها البوصلة لا الورقة، وعن المبدأ لا التكتيك، وعن المعنى الذي بُنِيَت عليه فكرة المقاومة منذ لحظتها التأسيسية. كان المطلوب إعادة تعريف المقاومة من مشروع تحرّر إلى فاعلٍ إقليمي مندمج في نظام النفوذ القائم، يفاوض على موقعه بدل أن يواجه أصل الخلل.

هنا، تحديداً، اتُّخذ القرار الأصعب: قرار أن تبقى المقاومة منسجمة مع ذاتها، لا رابحة في صفقات الآخرين. قرار القبول بدفع أثمان كبيرة، سياسية واقتصادية وأمنية، مقابل عدم المساومة على الثوابت، وعدم إعادة تعريف المشروع بما يرضي ميزان القوى السائد. لم يكن ذلك خياراً مريحاً، ولا طريقاً قصيراً، لكنه كان الخيار الوحيد الذي يحفظ وحدة المعنى بين الخطاب والفعل.

من هذا المنطلق، يمكن فهم المواقف اللاحقة، بما فيها الانخراط في الصراع السوري، الذي لم يُقدَّم بوصفه دفاعاً عن نظام أو عن أشخاص، بل دفاعاً عن معادلة إقليمية أوسع: أن انهيار بعض الدول المحورية في المنطقة سيؤدي حتماً إلى تراجع موقع القضية الفلسطينية، وإلى إعادة تشكيل الإقليم على أسس لا تترك مجالاً حقيقياً لأيّ توازن أو ردع.

وكان هذا الطرح، في حينه، موضع تشكيك وسخرية، واعتُبر توظيفاً سياسياً للقضية الفلسطينية. إلا أنّ ما شهدته المنطقة لاحقاً، من تراجع واضح لمكانة فلسطين في الأجندات الإقليمية والدولية، ومن تغييرات جغرافية وسياسية عميقة، أعاد طرح هذا الربط بوصفه قراءة استراتيجية، لا مجرد خطاب تعبوي أو تبريري.

اليوم، وبعد سنوات، لا تضيع فلسطين وحدها، بل يُعاد تشكيل الإقليم بأكمله وفق موازين قوى جديدة، وبكلفة محدودة على من راهنوا على منطق «التفاهم» بوصفه بديلاً عن الصراع. في المقابل، تبدو نتائج التسويات أقلّ استقراراً مما وُعد به، وأقلّ قدرة على حماية السيادة أو الاستقلال الفعلي للقرار.

المفارقة أنّ من اختاروا التسويات باسم الواقعية السياسية، خسروا الأرض والقدرة معاً. أما من اختاروا المبدأ، فخسروا الكثير بلا شك، لكنهم ربحوا ما لا يُقاس بلغة المصالح المباشرة: التصالح مع الذات، ومع التاريخ، ومع المعنى الأخلاقي لفكرة المقاومة بوصفها موقفاً قبل أن تكون شعاراً.

هذا هو السؤال الحقيقي.

والحكم، في النهاية، ليس للتاريخ وحده، بل لكلّ منصف، لا يزال يميّز بين من يربح تسوية ويفرّط بالأرض وإرث الأجداد ودماء الشهداء، ومن يخسر الكثير لكنه لا يفرّط بما إذا فُقد لا يُعوَّض.