| د. صادق النابلسي | استاذ جامعي
كل مَن سألتُه عن محمد عفيف بعد شهادة السيد (رض)، كان يقول لي: «الحاج انطفأ قلبه». كنّا نرى على وجهه وجسده علامات النهايات. بدا مكشوف السرّ والحواس: «أنا مش مطوّل».
نزل الليل ثقيلاً على فؤاده عندما جاء رسول الشهادة ليصطحب رفيقه الأحبّ، الذي تحوّل إلى مولاه المعشوق، وحضرة سيده الأكبر الذي ينتمي إليه في كل بصره وآماله ويقينه وغيبه.
«لا طيّب الله العيش بعدك»، تعني أن يعود معه إلى تربة المنتهى، ويتماهى مع معراجه نحو سماء النور.
خمسون يوماً من الحرقة واللوعة، كان يفتح فيها المسالك بعصا كلماته، ينظر إلى عمق عيون «أشرف الناس» الحائرة، يطمئنهم ويقوّيهم، ثم يمضي إلى وجعه، يتخفّى في عمق البكاء، ينحدر إلى مخبأ الروح، لا يتكلم، بل يواصل سيره بلا توقف وبلا خوف وبلا تردد ولا حسابات، إلا حسابات الوصل والوصال.
لقد غام كل ما يحيط به، لا شيء يجذبه إلى البقاء بعدما سقط عمود خيمته، وانسحب عطر جماله، وذهبت شمس عمره.
مسكوناً بموسيقى الشوق ونداءات خفية مبهمة لا يتحسسها إلا من شمّ بخور الجهاد، يريد أن يقتفي أثر سيده ويسكن أرضه المعشقة بأنس الأولياء.
الحاج كان يرى بقاءه بعد رحيل السيد هزيمة للذات، خيانة للحب. مرة اتصل بالوالدة مطمئناً.
قالت له: «أغلق الهاتف فوراً لا أريد أن أكلمك. ألا ترى كيف يستهدفون من يحملون الهواتف. فقط أريدك أن تنتبه لنفسك. قال لها: هل تريدينني أن أموت على الفراش؟». اشتعل قلب الوالدة أكثر، وراحت تبكيه بالدمع المر.
كنتُ أتابع «الميادين» عندما جاء خبر عاجل بقصف الطائرات الإسرائيلية مبنى في رأس النبع. تحولتُ بسرعة لمتابعة الخبر على قناة «الحدث». كتبتْ على شاشتها أنّ نتنياهو خرج من اجتماعه لإحاطة أمنية. «الإحاطة الأمنية» تعني أنّ قيادياً كبيراً قد استُهدف.
هذه العبارة وردت على الشاشات مع اغتيال سماحة السيد والقادة الكبار. قلتُ في سرّي: مَن يكون هذه المرة؟ لحظتها، تمسّكتُ بكل حبال الصلاة لئلا يكون الحاج محمد. ثوان وأعلن المذيع أنّ إسرائيل اغتالت «مسؤول العلاقات الإعلامية في حزب الله محمد عفيف».
أعماني الضوء الذي يملأ المكان، امَّحت المسالك في طريقي. أكرر المشي في الغرفة لا أعرف إلى أين. كنتُ قبل مدة قد قرأتُ اقتباساً منسوباً إلى ليو تولستوي يقول فيه: «عندما قالوا لي في المستشفى إنّ زوجتك ماتت، لم أعلم ماذا أفعل، كنتُ سأذهب إلى المنزل لأخبرها بما حدث لتخبرني بما أفعل». كدتُ حين ضيّعتُ مساراتي الذهنية أفعل الشيء ذاته. أتصلْ بالحاج محمد لأخبره أنّ الحاج محمد قد استُشهد ليخبرني ماذا أفعل!
رماني الخبر كقطعة فخار من علٍ. سقطتُ في بحر الحزن الذي أربك مشاعري وغيّب تركيزي.
ثم وجدتُ نفسي بعد أقل من ساعة أمام الركام. إلى جانبي أناس أعرفهم ولا أعرفهم، يمشون مثلي في عمق النفق الطويل ولا يملكون إلا الإيمان معبراً للعزاء.
قال لي أحدهم: «لم يعطِ ظهره أبداً لعدو، إنّ الأرواح قبل أن تصير في حضرة بارئها تصعد إلى جبل النار. الحاج لم يأته الموت. هو من ذهب إليه. كنّا نقول له: انتظر قليلاً ولكنّه كان يستعجل فردوسه الأغلى، سيده الأعلى».
بقينا إلى جانب الركام والأجساد المغمورة بالرمال حتى هطل المطر على أعماقنا. كان المطر مليئاً بالحكايا. هذا يذكر خاطرة وآخر يذكر أخرى عن بأس الحاج وذكائه وخبرته، حتى جاء مَن يقول لي: «لقد جهزنا له مكاناً سرياً يستطيع من خلاله إجراء كل الاتصالات بطريقة آمنة، لكنّه رفض وقال: أخجل من الشباب على الحافة الأمامية الذين يقفون على خطوط النار، وأنا هنا محصن بحوائط الإسمنت. إذا أخذتني إلى ذلك المكان، بتكون نهيت واحد اسمو محمد عفيف».
بعد ساعات من الانتظار أخرجوا الحاج من تحت تراب الشك إلى عين اليقين، وخرجتُ وراءه رماداً، حافي القلب، وبقدمين ليستا لي، وبطريق تمتد على صوره المبعثرة في ذاكرتي، وجلساته المؤنسة الدافئة.
كان الجلوس إليه يمنحنا دائماً متعة التفكير خارج الصندوق، والحصول على إجابات عن الأسئلة الصعبة التي تدور في بالنا. وصلنا إلى حيث يسجّى الشهداء. فاضت عيناي بدموع حارقة. تمنيتُ أن أسأله: أخي كيف وجدتَ طعم الموت؟ لم يكن موته موتاً. شممتُ من يراعه النازفة رائحة الحبر والبنفسج والضوء. هذه اليد هي التي خطّت يوماً: «بندقية المقاومة الإسلامية وحدها هي الرد، وقوافل الشهداء تصنع النصر»، وهي التي كتبت بيان نعي فاتح عهد الاستشهاديين أحمد قصير، وهي التي ختمت شهادتها بالشهادة لأسمى الشهداء في مسيرتنا.
بعد كل مؤتمر صحافي، كلنا كان يقول «هذه ليلة الحاج الأخيرة»، ولكن ليلته الأخيرة كانت حين فاضت روح مولاه، ما تبقى من الأيام كنّا نحن نراها شجاعة، بطولة، صناعة لرواية الثبات والإرادة في وجه وحوش العصر، حماية لمخطوطة المقاومة المكتوبة بالحبر والدم، ولكنه كان يراها طريقاً إلى نور الشهداء ومسلكاً إلى سلام الله الأبدي.
محمد عفيف النابلسي رجل الحروف الصادقة والكلمات القوية، غادر بابتسامته المعهودة (القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة) ليروي فصلاً من أمة حزب الله… الأمة التي لا تموت!