| خضر رسلان | كاتب وإعلامي لبناني
لم تخرج “اسرائيل” من الحرب الأخيرة بنصرٍ عسكري، بل بجرحٍ عميقٍ في صورتها وكيانها. فالدولة التي طالما قدّمت نفسها نموذجا للقوة والردع، خرجت مثخنة بالشكوك والانقسامات، فيما بقي خصومها من غزّة إلى لبنان، ومن اليمن إلى العراق، وحتى طهران أكثر تماسكا رغم النزيف. لقد ربحت “اسرائيل” بعض الميادين بالنار، لكنها خسرت الحرب الأهم: حرب المعنى والهيبة والردع.
منذ الأيام الأولى للمعارك، أدركت “القيادة الاسرائيلية” أنّ هذه الحرب تختلف عن سابقاتها. فالمقاومة في غزّة لم تُهزم رغم القصف الهائل والحصار الخانق، بل أثبتت قدرتها على إدارة المواجهة طويلة النفس.
وفي لبنان، لم تُكسر إرادة المقاومة رغم الاستهداف والتهديدات، وبقي ميزان الردع قائماً، وإن أصابه بعض الخلل، يحول دون المغامرة الاسرائيلية في الشمال.
أما اليمنيون، فقد لعبوا دورا متميزا في دعم المقاومة واسناد غزة، من خلال خبراتهم الصاروخية الدقيقة، وقدراتهم اللوجستية، والمبادرات القتالية النوعية التي زادت من ضعف المواقع الاسرائيلية، وأظهرت عجز الكيان عن السيطرة على محيطه الإقليمي.
بينما كان العراقيون داعمين أيضا، من خلال الميدان وإسناد المواقف الاستراتيجية للحد من أي تحركات واسعة للإسرائيليين.
أما إيران، فقد خرجت من الحرب أكثر رسوخا في موقعها الاستراتيجي، بعدما افشلت اهداف خصومها ، سواء منها إسقاط دورها الإقليمي و نظامها الإسلامي الثوري بل عززت دورها كقوة صلبة ودولة ارتكاز لقوى التحرر في العالم.
كل ذلك جعل “اسرائيل” تواجه حقيقة مؤلمة: أن ما كانت تسميه “محور الشر” لم يتفكك، بل أثبت أنه محور صمود قادر على امتصاص الضربات والاستمرار.
والنتيجة أن الكيان وجد نفسه في موقع دفاعي على كل الجبهات وان بدا عكس ذلك، بعدما فقد القدرة على فرض شروطه في السياسة أو الميدان.
خسائر “اسرائيل” هذه المرة لا تُختزل بالأرقام، وإن كانت قاسية: أكثر من ألفي قتيل، وما يزيد على خمسة آلاف جريح بإعاقات دائمة، وخسائر اقتصادية تفوق مئة مليار دولار.
لكن الأهم من ذلك، أنّ الحرب كشفت تصدّع الجبهة الداخلية، وتآكل الثقة بين المجتمع والقيادة، وتراجع إيمان الإسرائيليين بأنّ جيشهم قادر على حمايتهم. لقد سقطت “أسطورة الردع” التي قامت عليها دولة الاحتلال منذ عام 1948، حين باتت مدنها مكشوفة أمام صواريخ المقاومة، وشوارعها تعيش حالة هلع لم يعرفها جيل منذ قيام الدولة.
أمّا سياسيّا، فقد كانت الضربة أوجع. مشروع التطبيع العربي الذي رُوّج له كمدخلٍ لـ”شرق أوسط جديد” تلقّى ضربة قاتلة، إذ أثبتت الحرب أن القضية الفلسطينية لا يمكن تجاوزها أو اختزالها في اتفاقات أمنية أو اقتصادية.
كما تراجعت صورة “اسرائيل” في الغرب، وتحول “التعاطف الدولي”معها إلى نقمة أخلاقية بعد مشاهد الدمار في غزّة، لتخسر بذلك إحدى أهم أدوات قوتها: الدعاية الأخلاقية والسياسية.
حتى في سوريا، حيث يظهر المشهد أنّ “اسرائيل” حقّقت إنجازا غير مسبوق، فإن الواقع التاريخي لا يعدو كونه ربحا تكتيكيا مؤقتا في ميدان قابل للاشتعال مجددا. فكل “نجاح” ميداني تحققه “اسرائيل” اليوم، يتحوّل غدًا إلى نقطة استنزاف جديدة في صراع طويل لا يملك نهاية قريبة.
لقد كشفت هذه الحرب أن القوّة وحدها لا تصنع الأمن، وأن “اسرائيل”، مهما بلغت من تفوق تكنولوجي وعسكري، عاجزة عن هزيمة فكرة تمتلك الإيمان والشرعية والتجذّر في الأرض.
لقد خرجت من الحرب مثخنة في صورتها ومجتمعها، تحاول ترميم ما تهدّم في وعيها الجمعي قبل بنيتها العسكرية.
قد يكتب التاريخ هذه المواجهة بعنوان بسيط: لم تنتصر المقاومة بالكامل، لكنها منعت “اسرائيل” من الانتصار.
وفي ميزان الصراعات الكبرى، تلك وحدها كافية لتُسمّى انتصار الإرادة وصمود العزيمة.