لبنان: محنة الانتماء وانعدام الثقة والتفاهم والانسجام!

 

| د. عدنان منصور | وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

 

 

ليس هناك من شعب في العالم، كالشعب اللبناني،

يعيش على أرضه منذ قرون طويلة بأديانه، وطوائفه، ومكوّناته الاجتماعية، ويؤثر على أن لا يخرج من إطاره الطائفي والمناطقي الضيق، إلى رحاب الدولة المدنية الحديثة، إذ أن غالبية اللبنانيين يرون في طوائفهم الحصن المنيع، والملاذ الآمن لهم بغية الحفاظ على مكوناتهم ووجودهم، وخصوصيّتهم،

وانتماءاتهم، وثقافتهم، وعقائدهم الروحانيّة، وتقاليدهم الاجتماعية، وولاءاتهم السياسية.

ما نشهده اليوم في لبنان، نتيجة للسلوك والأفكار، والمفاهيم التي كانت سائدة فيه، منذ عقود طويلة، لم تتغيّر وتتبدّل للأسف، للانتقال من حالة المكوّنات الطائفية، والاجتماعية والسياسية، والعشائرية المتنافرة والمتباعدة، إلى حالة الدولة العصرية التي تحتضن مجموعات الشعب اللبناني، وتصهره في مجتمع واحد، من خلال مفاهيم تقدّمية حضارية، توحّد جميع اللبنانيين وطنياً، وقومياً، وثقافياً، ووجدانياً.

لم يستطع لبنان منذ تأسيسه عام 1920، من عبور حالة التشتت الفكري، والصراع العقائدي السائد في مجتمعه الطائفي، والإقطاعي، والعائلي، إذ إن الدولة الطائفية الجديدة التي أنشأها الانتداب الفرنسي، وضمّت في داخلها الطوائف اللبنانية على اختلافها، فشلت في إخراج لبنان من التشرذم، والفوضى، والانقسام الدائم، وتقاعست عمداً عن النهوض به، وتحقيق التقدم، ومواكبة حركة التطور الإنساني للشعوب والأمم.

لم يكن في نيّة الحكومات اللبنانية المتعاقبة على مدى قرن، نقل لبنان ومجتمعه الطائفي والعائلي، والإقطاعي، والعشائري، إلى مرحلة بناء الدولة العصرية، لأنّ حكام لبنان على مختلف مستوياتهم ومناصبهم، الذين تولّوا مقاليد السلطة، لم تختلف عقليتهم عن عقلية زعماء الطوائف التي كانت سائدة قبل إعلان دولة لبنان الكبير! هؤلاء الحكام بكلّ طوائفهم لم يصونوا وحدة الدولة، والمؤسسات، ويحصنونها بالقوانين العصرية، وبتماسك المجتمع اللبناني، بل تحصّنوا بطوائفهم، وجعلوها أداة في يدهم، تدافع عن امتيازاتهم، ومناصبهم، وتضمن لهم دوام سيطرتهم ونفوذهم. لذلك لم يستطع حكام لبنان بناء دولة العدالة والقانون على مدى أكثر من قرن، بل أوجدوا داخل الدولة دويلات طائفية، تتزاحم على اقتسام الحصص والامتيازات، والمنافع، متلطية بالدفاع عن حقوق طوائفها.

هكذا أصبح الانتماء الحاد للغالبية الكبرى من اللبنانيين إلى طوائفهم، ومناطقهم الجغرافيّة، ما جعل لبنان متعدّد الانتماءات الطائفية، والاجتماعية، والثقافية، والعقائدية، والسياسية، بدلاً من الانتماء الحقيقيّ إلى وطن، والدفاع عن سيادته، ووحدة أرضه وشعبه، بعيداً عن زواريب الطائفية البغيضة، التي فرّقت اللبنانيين، وبدّدت انتماءهم القومي لبلدهم، وأفقدتهم المواطنية الحقة، والشعور الأخوي تجاه بعضهم البعض، حتى إذا ما تعرّض جزء من لبنان لعدوان ما، يقف الجزء الآخر مكتوف اليدين، غير مبال حيال ما يجري، طالما يرى الخطر بعيداً عنه، ولا يعنيه!

حقيقة مؤلمة يعيشها لبنان، تقود اللبنانيين يوماً بعد يوم، إلى الكراهية والحقد، وإلى تفكيك نسيجهم الوطني، ليصبح لبنان على منحدر خطير، تعجز الدولة الطائفية عن حمايته وإنقاذه، ما يجعلها في كلّ مرة تستجدي الأجنبيّ لمساعدتها على الخروج من المأزق الذي هي وشعبها فيه.

ما الذي تغيّر في مفاهيم حكام لبنان والشعب اللبناني؟! أليست العقلية، والممارسات، والمشاعر،

والتعاطي، والخلافات بين اللبنانيين هي نفسها عما كانت عليه قبل قرنين من الزمن وأكثر، رغم المجاملات بين الأفرقاء، والتحالفات المرحلية، والمشاعر “الفياضة” من هنا وهناك، و”تودّد” الأطراف لبعضها البعض؟!

كيف يمكن لنا بناء دولة حديثة متطوّرة مستقلة، بعيداً عن إملاءات وأوامر الخارج، وعن الانقسام العمودي بين المكوّنات السياسية والطائفية، فيما عقلية الحكام، وغالبية اللبنانيين على حالها. عقلية تتحصّن بطوائفها، وبزعمائها الروحيين والزمنيين، لنجد بعد ذلك دولة هشة في الشكل، وفي الأساس جزراً طائفية متجذرة، ومحصنة، تمنع بناء دولة وطنية، أو اتخاذ أيّ قرار يوحّد شعباً، ويعزز وطنيّته، وعيشه الواحد وانتماءه الأصيل، إلى وطن موحد فكرياً وثقافياً، وقومياً!

متى سيخرج اللبنانيون من وضعهم البغيض الذي يعايشونه منذ قرنين من الزمن، ولا يزال جاثماً على صدرهم حتى الآن؟! ما الفرق بين لبنان القرن التاسع عشر والقرن الحادي والعشرين؟! هل تغيّر لبنان، وتغيرّت عقلية “شعوبه” لجهة وحدتهم، وانتمائهم لوطنهم وانفتاحهم على بعضهم البعض؟!

أيّ لبنان نريد، والزعماء اللبنانيّون حتى اليوم، لم يتفقوا على مفهوم موحد جامع حول قضايا رئيسة مصيريّة حساسة. إذ أن الوطنية، والخيانة، والسيادة، والعمالة، وتحديد الصديق والعدو، وتعريف الاحتلال والاستقلال، والتمييز بين المقاومة والإرهاب، أصبحت وجهات نظر، وإنْ كانت على حساب سيادة الدولة، وكرامة الشعب، وتحرير الأرض!

إنه بلاء الطائفية وزعمائها الرافضين تغيير الواقع المرير، وبناء الدولة العصرية، بسبب التحالف الوثيق بين زعامات الطوائف الروحية والزمنية، لأنه كلما تقدّمت الدولة الوطنية المدنية الجامعة، تراجع نفوذ زعماء الطوائف، وهذا ما يجعل التحالف بين الزعماء السياسيين والروحيين قدراً، وضرورة وجودية حتمية، تحفظ مصالحهم، ونفوذهم. أليس هذا هو الواقع المرّ للبنان الذي لم يتغيّر منذ قرنين وحتى اليوم؟! ها هو الانجيلي الأميركي وليام مك لور تومسون، الذي جاء إلى منطقتنا عام 1830، وعاش فيها 30 عاماً، يسطر واقعاً مؤلماً عن لبنان في كتابه “الأرض والكتاب” (The Land and the Book) الذي صدر عام 1870 أيّ منذ 155 عاماً ليقول: “يضمّ لبنان حوالي 400 ألف نسمة، موزعين على أكثر من 600 مدينة وقرية ومحلة. تعيش مختلف الديانات والطوائف جنباً إلى جنب، وتمارس أفكارها الخرافيّة المتناقضة إلى جانب بعضها البعض.

لكن الناس لا يتوحّدون في مجتمع متجانس واحد، ولا يكنّون لبعضهم البعض مشاعر أخويّة”. بعد أن يسمّي تومسون جميع الطوائف التي تكره بعضها البعض يقول: “لا يوجد رابط اجتماعيّ موحّد مشترك بين السكان، فالمجتمع لا يملك طبقات اجتماعية متصلة يمكن العمل من خلالها لفائدة الجميع، بل هو مجموعة من الشظايا المبعثرة لا نهاية لها… الروح الخالقة هي الوحيدة القادرة على إخراج النظام من هذه الفوضى، وتحويل العناصر المتضاربة إلى سلام وانسجام. افترض أن ليس هناك من بلد في العالم يحتوي على تنوّع عرقي ومعيشي متنافر بهذا الشكل، ويشكل أكبر عقبة أمام أيّ تحسين دائم لوضع السكان، وشخصياتهم، أو آفاقهم المستقبليّة. لا يمكن لهم أن يشكلوا شعباً موحداً، ولا يمكنهم التوافق حول أيّ غرض ديني أو سياسي مهمّ، وبالتالي سيظلون ضعفاء، عاجزين عن حكم أنفسهم، ومعرّضين لغزوات واضطهاد الأجانب. هكذا كانت الحال، وهكذا هي الآن، وسيستمرّ هذا الوضع طويلاً، حيث يبقى الشعب منقسماً، متجزّئاً ومستعبداً.

خلال 155 عاماً تغيّر وجه العالم ولم يتغيّر وجه لبنان. بقيت عقلية حكامه متحجّرة رغم “المساحيق” التي روّجوا لها، واستعملوها لتلميع صورتهم، وصورة أسوأ نظام طائفيّ، وأشرس طبقة سياسية، ومالية واحتكارية، جعلها على مدى عقود تتصدّر واجهة الفساد دون منازع، ومنذ أن صاغ الانتداب الفرنسيّ للبنان نظاماً طائفياً هجيناً فاشلاً، لا زلنا نعاني من تداعياته المدمّرة، حتى أصبح لبنان من ذوي الاحتياجات الخاصة. لذلك فشل حكام لبنان بنظامهم الطائفي السيّئ، في حماية وطنهم، وتحرير إرادتهم،

وتوحيد مواقفهم، والحفاظ على استقلاليّة قرارهم، والتخلص من تبعيتهم لدول الهيمنة والتسلط.

هكذا كانوا، وهكذا هم الآن، وهكذا سيبقون…