وحده التاريخ سيكون متألقاً عندما يهمُّ في كتابة سيرته، وقد يلهمه ابن الخيام ومملكة درْدارتها حسن عبدالله، فيشيّد معمارية نثرية عن رجل: ما غادر الميدان، لا في السلم مفتقدٌ، ولا في الحرب مفتقدٌ، ولا في المهرجان.
ولهذا التاريخ أنْ يهتدي غداً بمزايا تقيم غالباً خارج أبراجه، كما خارج نصوصه وحروفه القاسية شديدة اللهجة، فالسيد الآتي الذكر، لم نأتِ على ذكره رجلاً شعبياً تفيض الإنسانية من روحه، ويتمتع وجدانه بخلايا وجينات بيروت التي تَنسّمَ هواءها ولداً وفتياً في حي شرشبوك الواقع على مرمى حجر من مرفأ المدينة وحي المسلخ الشائع الشعبية.
وأنْ تجالسه، يعني أنْ تقبض على ملامح عمامة انشقت من ملح المدينة ورائحة بحرها وخبز أولادها المكسور، وتحت تلك القماشة السوداء تنام جروح الجنوب التي اشتمّها ابن الحاج عبد الكريم والحاجة نهدية صفي الدين بحراً وبراً.
وهنا نحن الآن في حضرة سيد، كما نردد في مجتمعاتنا، «بيخاف الله» ويمشي في شرعه. وهو دائم السؤال عن الناس وأحوالهم، عن نقمتهم ورضاهم، عن احتياجاتهم وصعوباتها، ويحرص على تفصيل التفصيل لكأنه أب يسأل عن أولاده.
يحدثك كجارٍ تعرفه من زمن، ويهتم برأي تدلي به، يستمع إليك بإصغاء شديد، يُشعرك بأن ما تقوله مُقدّر عنده ويكسر رتابة الحديث بحركة تزيل عنك رهبة الاجتماع.
كان لي فرصة لقائه قبل وبعد حرب تموز، لكن الجلسة الأكثر قرباً وعلى المسافة صفر من إنسانيته وعفويته، هي تلك التي سبقت مقابلة تلفزيونية أعقبت حرب 2006.
لأيام، لم يكن قد ظهر الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بعدما رافق اللبنانيين طوال مرحلة العدوان تلفزيونياً أو عبر رسائل هاتفية. وبعد صمت أعقب وقف إطلاق النار، أراد أن يكرّم تلفزيون «الجديد» وهو الذي كان مشاهداً متابعاً لكل يوميات الحرب وراصداً لمقدمات النشرات الإخبارية وعباراتها ومواقفها.
بعد تسعة عشر عاماً على تلك المقابلة، وفي غيابه، أستسمحه ببضع محضر سبق اللقاء. وبضع أداء، ظل عالقاً في البال عن رجل من بلدي. عن قائد تجمّدت على ضفته بحور شعر، وعن زعيم افتدى الأرض وفلسطين بدمه. وبعد الشهادة عُثر على بقع من الآثام التي أهدرت وطنيته وأرْدتها مضرّجة بقلة الوفاء.
لو كنتَ تعلم يا سيد،
لو قرأت قصيدة شوقي عن قمصان يوسف لوجدت أن «هذا الزمانُ الذي برأ الذئبَ من شبهة الدم فوق قميصكَ ليس زمانك، وهذا الحصان الذي لم تخنْ برقَه المتردد خانكْ. أما إخوتك فقد اتحدوا مع قميصكَ ضدَّ دموع أبيك، فلا تتعلق بدلو الأمانِ الذي انتحلوه لكي يخدعوكَ، تَوَقَّ أحابيلهم وابتكر من خيوط الهلاك حبالك».
اختلفوا يا سيد على طيفك ينوّر صخرة، تشفّوا قبلها بعمق الحفرة، وزادوا طناً من القهقهات على ثمانين طن متفجرات.
وقبل الخناجر في أقصى الحفرات… كيف كانت الطريق إلى السيد؟
وأي حال كنا فيه عندما نلتقيه؟ كيف يحدثنا ويمازحنا ويكشف عن وجه إنساني لا تزيّفه السياسة ولا ينتمي إلى ثعالبها .
في الطريق إليه لم يتم «عصب العيون» كما يتردد، ولا شيء من هذا القبيل سوى سيارة داكنة لا ترى منها سائقها، وإجراءات مشددة لا تصطحب فيها أيّاً من طواقم العمل وعدة التصوير، ولا شيء تحمله معك من غطاء الرأس حتى القلم.
تدور السيارة فوق الأرض وتحتها، وأنا أفكر بمضمون اللقاء من دون تدوين، وعزّ عليَّ ألا أتمكن مسبقاً من كتابة مقدمة خاصة به، بصوته الذي انتشلنا من خوفنا، عندما دعانا إلى أن ننظر إليها تحترق في عرض البحر.
نصل إلى مبنى في ريف الضاحية ونصعد إلى طابق سادس غير مرئي، اعتقدته محطة ترانزيت قبل الانتقال إلى مكان اللقاء.
ندخل إلى شقة تجهزت فيها أركان المقابلة من الكاميرات والمصورين إلى الورقة والقلم، وهنا لا زلتُ أنتظر أن يتم نقلنا إلى ركن آخر ومنطقة أخرى، لأن السيد حسن لا يُرجَّح أن يكون هنا، في بيت من عمارة عامرة بناسها.
وفي صالون بيت مسكون، تعلوه صور أطفال ولوحات زيتية، أجلس على كنبة مرتبكة شكلاً ومضموناً، وأبدأ في وضع الأسئلة مع حيرتي في دبوس أغرزه في الإشارب ولا يهتدي.
وعند هذه المعركة ونظري إلى الأرض، أرى حذاء قد زينته قدَمان… ليس ملمعاً وبدا أن الطرق وضعت لمساتها عليه.
أنظر إلى فوق فأصطدم بهالته: «انت هون؟»
يجيب: «أي، وما تسأليني نحنا وين، متلي متلك، ما بعرف كيف جابوني».
أخبرته على الفور بأنّي لست محاورة ولا صلة لي بالشاشات في الأصل، وأني رشحت أحد زملائي لإجراء المقابلة لكن فريقك رفض ذلك وأصرّ على أني مطلوبة بالاسم.
قال: «أحببت أن يكون هذا التكريم لكم عبرك، فأنا لا أنسى دور محطتكم الداعم لقضية المقاومة، وأنكم حولتم شاشتكم إلى جسر عبور بين الناس».
رديت أن هذا واجب وطني سوف نقوم به حكماً، وتلك سياسة المحطة التي ربينا عليها، وأن العدو الإسرائيلي لا يترك لك الخيار في أن تكون وطنياً بالفطرة ضده متى اعتدى على بلدك.
وإذ أدليت بهذا وبصوت خافت، أدركَ السيد حجم رهابي من هذه المقابلة فنصحني بالهدوء وضبط أعصابي وقال: «اشربي الشاي»، وأخذ قطعاً من المكسرات والجوز والزبيب وراح بتفتيت بعضها بيده: «بدك شوي منها فوق الشاي..أطيب».
ثم بدأ هو، بطرح الأسئلة:
«ماذا يقول عنّا الناس حالياً؟ كيف دبروا أمورهم في الحرب؟ هل لاحظتِ انزعاجاً من البعض؟ هل هناك لوم علينا؟ أنا أريد في هذه المقابلة أن أبدد مخاوفهم حيال غدهم، وأعدهم بأن كل شيء سيعود أحلى مما كان. الهدف من هذا اللقاء هو إعادة الإعمار، هناك دول ستساعدنا، ونحن منذ اليوم الأول لنهاية العدوان بدأنا بورشة العمل. الطمأنينة للناس أهم بند عندي، وبعده اسألي ما شئت من أسئلة».
لم تكن المقابلة مباشرة بل سُجلت مسبقاً على كاسيتات فيديو بواسطة مصورين من فريق الوحدة الإعلامية في «حزب الله».
وأحتار مجدداً في ألا «ينزح» الإشارب عن رأسي، فأنشغل عندها بوضعية إعادته إلى مكانه وأشرد عن السؤال والجواب.
لاحظ السيد حيرتي، فأرشدني من مكانه إلى طريقة مُحكمة في شك الدبوس وقال: «بلا معلميّة، هيك بتخلصي من هاللبكة وبيضل ثابت في مكانه».
وعاد الحديث الجانبي إلى قضايا الناس وأحوالهم، وإلى الأيام الـ33 التي قضوها نازحين، وما تخللها من محن وتنقل بين المدارس كأمكنة للنزوح، إلى اللحظة التي أطل فيها هاتفياً معلناً عن قصف الباخرة الإسرائيلية ساعر بعد يومين على العدوان، وتحدث حتى عن «النكات» التي درجت في تلك الأيام وعن توهان العدو في تحديد موقع «جسر اللوزية» لقصفه.
أخبرني أن بعضاً من هذا كان يبتسم له، وقال إن هناك تقريراً على «الجديد» (أعدته كلارا جحا) تناول أيام الحرب ونهفاتها الساخرة، وزودني بأخرى غابت عنّا حتى تلك المتعلقة بمعادلة حيفا وهيفا،
أعطتني هذه الأجواء سماحة في الأخذ والعطاء، وكدت أن «آخد وج» قبل أن أعود إلى رشدي. اللقاء سيبدأ بعد قليل وعندي ألف سؤال عن الحرب والحزب وطاولة الحوار، حين كان قائمة
قبل عدوان تموز، كان السيد يشارك شخصياً، يقدم اقتراحات إستراتيجية ويناقش ويستمع إلى مخاوف فريق آخر في البلد، أما بعد تموز فالأمور اختلفت عنده،
«لقد غدروني. كيف بدي اقعد مع مجموعات حللت دمي في الحرب، اتفقت عليي وعلى شعبي. انتي شفتي السنيورة؟ والأركان؟ شفتي اجتماع السفارة؟ هودي بعد بتعطيهن ضهرك؟ طعنوني بالضهر… واسألي… اسألي هون قد ما بدك. ليه بدي اتخبى ورا العبارات وفتش عن كلام بيجمعنا إذا هني مش مستحيين بأعمالهن.».
«في قلبي حريق» يقول، «صدقاً تفاجأت، الأميركي والإسرائيلي كانوا يرضخون ويمنحون فرص تفاوض وهم لا، طيب يمهلوني قبل أن يتآمروا عليّ ويقدموا شعبنا لقمة سائغة في السفارة الأميركية. هذا جبن وحقارة. ولن أجلس معهم مجدداً. لن أقطع الحوار، سأظل متمسكاً بلغة التحاور، وسأنتدب ممثلاً عن الحزب. لكن شخصياً لم أعد أتنقل كما زمان، عدا عن إني ما إلي نفس شوف أشكالهن».
وأسأله تحت الهواء: «طيب يا سيد، في الحرب هل كنت تتنقل، وكيف، ألا تخشَ الاستهداف؟».
يجيب: «من وقت لآخر أنا والإخوة كنّا نطل، وفي مرة أكلنا بوظة في أحد أحياء بيروت، وكنت أتفقد الشباب والناس. ما انقطعت عن الزيارات لكن أكيد بحرص شديد وبتورية في الشكل. إذا شفتيني ما رح تعرفيني».
«وهل ندمت يا سيد على إنك وضعت البلد في حالة حرب؟ هل لو عاد بك الزمان ستكرر ما حدث في خلة وردة؟».
يجيب: «وكمان هون اسألي اللي بدك ياه… رح جاوبك ما تستعجلي، شرط ألا تقاطعي فكرتي. اتركيني بعد سؤالك أن أسترسل لأن أفكاري ممنهجة».
يقلع النظارة، فتبدو لك أن تلك العيون أصغر مما تراها على الشاشة، ويحمل محرمة ليزيل آثار عرق آب بعد أن أمر القيمون على الأمن بإطفاء التكييف لضرورات التسجيل. ثم يتراى أمامي جوابه حيال ما عُرف لاحقاً بعبارة «لو كنتُ أعلم» وشرح البُعد الإنساني لجوابه الذي سيتصدّر لاحقاً عناوين البحث.
قال: «ما تعودت المراوغة والأجوبة التي تحتمل مئة ألف تحليل. أنا مباشر مع أبناء وطني وجلدتي، أحدثهم كأهل بيتي، صادق معهم. كيف لي أن أخطط لقتلهم وتشريدهم… طبعاً لم تكن لدينا الحسابات أن عدونا سيدخل في حرب لأجل جنديين. فلا أنا أقبل، ولا الأسرى في السجون الإسرائيلية يقبلون. ولدي أسبابي الإنسانية والأخلاقية والعسكرية التي سوف أفصلها في المقابلة إذا ما أردت سؤالي».
«ولكن يا سيد، هذه غزة أمامنا. انظر ماذا كان رد فعل الإسرائيلي على خطف الجندي جلعاد شاليط قبل شهر من الآن».
يجيب: «لكن فلينتظر العالم أن إسرائيل سوف تذهب إلى مفاوضة حماس وبشروط المقاومة ولو بعد حين، والأيام بيننا».
من وجهته، فإن الحرب لمن يرسم نهايتها، لكن فريقاً من اللبنانيين اعتاد الإسراع في تقديم فروض الطاعة للغرب، واعتاد تصديق ما ينسج حولنا من اتهامات… وليس آخرها اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ولو يعرفون أي ود كان يجمعنا به، لو يستعمون فقط إلى عقيلته السيدة نازك بعد الاغتيال، والتي لم يراودها أي شك بنا… ليتهم على رزانة عقلها وقلبها الكبير».
بدأ الحوار المسجل، ولم يشترط سيده حذف أو عدم التطرق إلى أي موضوع، ولم أقدم أسئلتي مسبقاً سوى النقاش الذي دار بيننا مطولاً قبل الحلقة.
ولدى انتهاء أول شريط من الحلقة، وعندما أراد المصور تبديل الشريط ووضع آخر، طلب مني السيد أن أتوقف قليلاً ليجري بنفسه عملية مونتاج ذاتية تجنبني «المنتجة» في الاستديو، وقال: «سوف أستكمل فكرتي على ذات الجملة، طالباً من المصور أن يسمعه آخر العبارات لاستكمال الحديث على الوتيرة عينها، قائلاً: ما بدنا نعذبكن… هيك أسهل».
ينتهي اللقاء التلفزيوني فنبدأ بتقييم سريع ويبادر إلى القول «هلق رح يعلقوا ع موقف معين واحد، رح يقولوا تفضّل يا سيد حسن، إذا الحرب ما كنت بتعرف نتائجها لشو فتت هالفوتة… وانتي كمان نزلتي أسئلة وصرتي تكرري السؤال: لو كنت بتعرف انو هالحرب رح تكلفك 1200 شهيد، ودمار لبنان… طيب ع مهلك، بس عادي ولا يهمك. أنا صريح وحكيت اللي حسيت انو طالع من عقلي وضميري وما رح كذب عالناس… حتى عدوي بيصدقني».
انتهى اللقاء الذي لم أشاهده على الشاشة لاني أمقتُ رؤية نفسي تلفزيونياً، استقليت «فان ركاب» إلى الجنوب أحمل طفلتي زهرة، هاربة بعيداً من حديث الناس وانتقاداتهم.
ها نحن هنا اليوم، نذكره شهيداً، كيف تمّ ذلك؟
عام على الغياب، ,ومثلي يردد كثيرون مع أنسي كلمات من حطب الغضب:
ما عدت أحتمل الأرض
ما عدت أحتمل الأجيال
فالأعرف من الأجيال يضيق بها.
ما عدت أحتمل الجالسين
فالجالسون دُفنوا.
لكن ذكريات السيد، تجيء… لا تؤذي
لم يتعبْ ، ولم يذهب
ويلعبُ ضد كل اللاعبين على المكان
ما غادر الميدان.