رسالة النار الصامتة: عندما تنقل باريس تهديدات إسرائيل للبنان

 

| د. محمد حسن سعد |

رئيس معهد وورلد فيو للعلاقات الدولية والدبلوماسية

 

في خضم اشتعال الساحة الإقليمية وتفاقم الهشاشة الداخلية في لبنان، تلقّت الدولة اللبنانية رسالة فرنسية تحمل دلالات بالغة الأهمية في توقيتها ومضمونها، مفادها أن “إسرائيل تستعد لشن عدوان جديد على لبنان”.

ورغم أن التحذيرات الدولية من احتمالات الحرب ليست بالأمر الجديد، فإن اللافت هذه المرة هو صدور هذا التنبيه الصريح عن طرف دولي بحجم فرنسا، وإبلاغه المباشر والواضح للمعنيين في بيروت بأن طبول الحرب تدوي بالفعل داخل الغرف الإسرائيلية المغلقة، في تحوّل نوعي في لهجة التحذير والدبلوماسية.

أولاً: الرسالة الفرنسية… ما بين التحذير والإنذار

الرسالة التي حملها الفرنسيون لا تأتي في فراغ سياسي أو عسكري، بل في سياق تصعيد متدرج على الحدود الجنوبية، وتعاظم في نبرة الخطاب الإسرائيلي الرسمي تجاه حزب الله، وسط حديث متكرر عن “استنفاد الصبر” و”الذهاب إلى الحسم”. ما يميّز الرسالة الفرنسية أنها ليست تقديراً أمنياً أو تحليلاً استخبارياً، بل إخطار مباشر ينبئ بأن العدوان المقبل، إن حصل، لن يكون مفاجئاً، بل مخططاً له ومأذوناً به دولياً ضمن ما يُعرف بـ”هندسة الصمت المسبق”.

فرنسا، التي لطالما تباهت بعلاقاتها التاريخية مع لبنان، لم تنقل هذه الرسالة لتُبدي تعاطفاً، بل لأنها لا تملك القدرة أو الرغبة في احسن الأحوال في كبح الجماح الإسرائيلي، فباريس في عهد ماكرون أضحت أضعف بكثير من أن تمارس ضغطاً فعلياً على تل أبيب، وتكتفي بدور الوسيط الصامت أو الناقل الموثوق.

ثانياً: دلالات التوقيت وتآكل الخطوط الحمر

في سياق بالغ الحساسية يتسم بتقاطع الانهيارات الإقليمية والارتجاجات الداخلية في لبنان، يُسجَّل وصول هذا “التحذير البارد” ليعكس تحوّلاً خطيراً في المزاج الدولي تجاه سيناريو الحرب:

1 ـــ فشل محادثات التهدئة غير المباشرة بين “إسرائيل” ولبنان عبر الوسيط الأميركي توماس باراك، الذي لم يتردد في الإشارة مراراً إلى أن البديل عن الاستجابة للمطالب الإسرائيلية هو الانزلاق نحو الفوضى والحرب مجدداً.

2 ـــ تصاعد مناخ الحرب الشاملة في المنطقة، من غزة إلى اليمن، ومن سوريا إلى العراق، وصولاً إلى إيران، التي تلقت تحذيرات صريحة من دول مؤثرة، وعلى رأسها روسيا، بشأن احتمال تعرضها لضربة عسكرية إسرائيلية – أميركية مشتركة قيد التحضير. كما برزت تهديدات إسرائيلية بشن عملية عسكرية كبرى ضد اليمن، تختلف في طابعها وحجمها عن سابقاتها، في ظل استمرار صنعاء في دعم غزة رغم كلفة ذلك.

3 ـــ استمرار عجز الأمم المتحدة عن فرض أي التزام فعلي على “إسرائيل” بتنفيذ القرارات الدولية، وفي مقدمتها القرار 1701، ما يجعل البيئة الدولية مهيأة لتجاهل أي خرق جديد تقوم به “إسرائيل.”

فالتوقيت، بلا شك، لا يخلو من دلالات مقلقة، والأخطر أن الرسالة الفرنسية تتقاطع مع ما تسرب من تقارير إسرائيلية عن استكمال “بنك الأهداف” في لبنان، وتلميحات إعلامية متكررة إلى نية استغلال أي حادث حدودي لتحويله إلى حرب شاملة تحت شعار “الدفاع الوقائي”.

ثالثاً: الدولة اللبنانية… صمت ما قبل العاصفة

من المؤسف أن الدولة اللبنانية، التي تسلّمت الرسالة، لم تصدر عنها أي ردة فعل سيادية أو سياسية واضحة. لا إدانة، ولا موقف دولي مضاد، ولا حتى تحرك استباقي في المحافل الدولية والإقليمية. وكأن التحذير الفرنسي سقط في فراغ لبناني مدجّن، أو أنه فُهم ضمنياً على أنه دعوة للصمت والخضوع بدلاً من التحضير والمواجهة.

الخطير في هذا الصمت أنه قد يُفسر في الخارج كقبول ضمني أو ضعف مميت، ويُشجع المعتدي على الظن أن لبنان الرسمي منهك، ومفكك، وغير قادر على إدارة مواجهة سياسية، فكيف بحرب مفتوحة؟

رابعاً: الرسائل الدولية… حين تصبح أدوات للابتزاز

الرسالة الفرنسية لا يمكن فصلها عن نهج دولي يتصاعد في الأشهر الأخيرة، حيث يُجري الغرب وفي طليعته واشنطن إعادة تموضع في مقاربته للمنطقة: تدخل أميركي ناعم، تصاعد العدوانية الإسرائيلية، تهميش العرب، وتحجيم حلفاء المقاومة. ضمن هذا الإطار، تُستخدم “الرسائل” كأدوات ضغط، لا نصائح صادقة، فالرسالة التي تُنقل إلى لبنان قد تكون سبقتها رسائل مغايرة إلى “إسرائيل” عنوانها: “تحركوا من دون سقف”، ما يعني أن ما يُقدم للبنان من تحذير، يُقدم للآخر كضوء أخضر مفتوح.

 

 

خامساً: المطلوب… يقظة سيادية وشبكة حماية وطنية

الرد المناسب على هذه الرسالة ليس بالتجاهل، بل ببلورة إستراتيجية وطنية دفاعية، سياسية، وإعلامية، تبدأ بإعادة تفعيل الدبلوماسية اللبنانية في المحافل الدولية، والاقلاع عن دبلوماسية البكاء التي قدمها وزير الخارجية اللبنانية يوسف رجي باعتبارها الخيار الوحيد المتاح لتجنيب لبنان أية حرب مقبلة، كما يُفترض بالحكومة اللبنانية، رغم هشاشتها، أن تبادر إلى تشكيل خلية أزمة سيادية تستبق العدوان إعلامياً ودبلوماسياً، وتمنع تحويل لبنان إلى مسرح صامت لعدوان جديد يُشرّع دولياً تحت غطاء اللاموقف واللاقرار. وبالتوازي مع ذلك يتوجب على المقاومة اليقظة والاستعداد لمواجهة العدوانية الإسرائيلية بادوات تختلف كلياً عن تلك الادوات التي كانت معتمدة ما قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر عام 2023، وما قبل حرب أيلول/سبتمبر عام 2024، فثمة اعتقاد راسخ وقوي في كل من واشنطن وتل أبيب بأن اللحظة الإقليمية والدولية سانحة لاعادة رسم خارطة المنطقة بما يتوافق مع الرؤية الأميركية ـــ الإسرائيلية للشرق الأوسط الجديد.

ختاماً، حين تنقل باريس الرسالة، لا يعني ذلك أنها إلى جانب لبنان. بل على العكس، الرسالة تكشف أن إسرائيل تضع يدها على مفتاح القرار، وأن بعض العواصم اكتفت بدور ساعي البريد. والسؤال الحقيقي لم يعد: هل ستقع الحرب؟ بل: كيف سيواجه لبنان عدواناً يُعدّ له في العلن ويُبرر له في السر، بينما الدولة تصمت، والمجتمع الدولي يراقب، والعدو يخطط؟

إن السكوت في هذه اللحظة ليس علامة حكمة، بل خطر وجودي يهدد ما تبقى من السيادة.