جلسة الثلاثاء: سلاح الدولة… أم دولة بلا سلاح؟!

| د. محمد حسن سعد |

رئيس معهد وورلد فيو للعلاقات الدولية والدبلوماسية

 

في إنجاز وطني جديد يُضاف إلى سجل الانهيارات اللبنانية المشرّفة، انجازات الجمهورية الموزية، جمهورية البؤس المستدام، يستعد مجلس الوزراء لعقد جلسة استثنائية يوم الثلاثاء المقبل، هدفها الحاسم والمصيري: نزع ما تبقّى من هيبة الدولة، تحت عنوان رنّان اسمه “حصرية السلاح بيد الدولة”… دولة؟ أي دولة؟ تلك التي لا تملك قرار الكهرباء، الغذاء، الدواء الأزمة المعيشية الخانقة، والإقتصاد المنهار، ولا القدرة على رد صاروخ، ولا حتى منع قصف على رؤوس مواطنيها، الدولة التي تركت الجنوب وغير الجنوب لقمة سائغة للعدوان الإسرائيلي المستمر والمتمادي منذ العام 1948 وحتى وقتنا الراهن!

 

نعم، الدولة قررت أخيراً أن تواجه العدو الحقيقي… لا، ليس “إسرائيل” التي لا تغادر الأجواء، ولا التي ما زالت تحتل أراضي لبنانية وتسرح وتمرح على الحدود وتقصف متى شاءت وتخرق القرار 1701 يومياً. العدو الذي وجب التصدي له بحسب الحكومة هو السلاح الذي منع “إسرائيل” من ابتلاع لبنان خلال العقود الماضية، عقود التخلي والخذلان عن الجنوب، فيا له من تمرّد فاضح على منطق الهزيمة!

 

في الجلسة المنتظرة، سيجتمع الوزراء أولياء نعم الدولة العظيمة، جهابذة العصر الذين سيتحولون إلى خبراء في “الشرعية”، سيبحثون بعمق وحرص ومسؤولية: كيف نجرد لبنان من آخر أدوات الردع التي لم تسقط في مزاد الإفلاس؟. أما “إسرائيل”، فممنوع ذكرها بسوء، لأنها على ما يبدو لم تعد العدو، بل الشريك الصامت في ورشة الإصلاح السيادي.

وللإيضاح اكثر سيبحث الوزراء العباقرة تسليم السلاح “الزائد عن الحاجة”، وكأن البلد يعيش بحبوحة، وجيشه مجهّز بطائرات إف-35 وأقمار صناعية، ويملك من السيادة ما يكفي لمخاطبة الأمم من موقع القوة… مع أن الحقيقة الوحيدة الثابتة هي أن الدولة نفسها لا تملك حتى مفتاح بابي بعبدا والسراي بدون موافقة السفارة.

 

ملف الأسرى اللبنانيين؟ منسيّ كالعادة، لأن الحديث عنهم يُزعج حلفاء السلام المزعوم. إعادة الإعمار؟ مجرد عنوان يُستعمل لحفلات الكذب الموسمية. أما الجنوب والبقاع والضاحية، فيُقصفون ليل نهار، بينما الحكومة منشغلة بمراسم تسليم آخر بندقية مقاومة للمجتمع الدولي “تحت إشراف شرعي” وبشهادة حسن سلوك.

 

ومع أن “إسرائيل” ترفض الانسحاب من الغجر وتلال كفرشوبا ومزارع شبعا والتلال أو النقاط الخمس، فإن أحداً لا يتجرأ حتى على طرح السؤال البسيط: من سيُجبر “إسرائيل” على الإنسحاب؟ الجواب الرسمي: دبلوماسية البكاء والاستجداء، دبلوماسية “رام الله ودمشق الجديدة”.

 

وسط كل هذا الصراخ الرسمي حول “حصرية السلاح” وانضباط الدولة تحت راية الإملاءات الخارجية المغلّفة بعبارات السيادة والقانون الدولي، تغيب عن النقاش حقيقة صادمة باتت تُحرج بعض أوساط المقاومة نفسها: أن” إسرائيل” أثبتت أنها تملك قوة تدميرية هائلة وقدرة استخباراتية وعسكرية لا يُستهان بها، وأن التعامل معها كـ”كيان هش” أو “عاجز” لم يعد يتماشى مع المعطيات الميدانية والوقائع الصلبة على الأرض. لقد آن الأوان لتقييم واقعي، لا عاطفي، للمواجهة مع هذا العدو، الذي اظهر في جولات الحرب الأخيرة تطوراً نوعياً في أدواته، ومهارة عالية في إدارة العمليات المركبة، واختراقات أمنية وصلت إلى العمق. الحديث عن توازن ردع يجب ألا يتحول إلى وهم ردع، والمبالغة في الاستخفاف بالعدو لا تبني إستراتيجية، بل تفتح الباب لأخطاء قاتلة. فالمقاومة، التي انطلقت من عقلية الدفاع والصد والرد، مطالبة اليوم بإعادة قراءة جدية لموازين القوى، بعيداً عن الشعارات والانفعالات، وإلا فإننا سنصحو على مفاجآت غير محسوبة لا تُغني عنها لا بيانات النصر ولا خطب التعبئة.

وفي قلب هذا المشهد العبثي الذي تمثّله جلسة مجلس الوزراء المقبلة، حيث يُناقش سلاح المقاومة بمعزل عن الإحتلال والعدوان، تتسلّل الفتنة إلى جسد الوطن، تتغذّى من هشاشة الدولة، وتُشعلها “إسرائيل” بتخطيطٍ واضح وصمتٍ داخليٍ مخزٍ. فبدل أن تكون الجلسة فرصة لتثبيت الاستقرار وتحقيق الإجماع على مواجهة الخطر الإسرائيلي، تتحوّل إلى منصة لتكريس الانقسام وتحميل الداخل ما يعجز الخارج عن فرضه بالقوة. بهذا المسار، لا تُحصَر الأسلحة، بل تُطلَق الغرائز، ويُفتح الباب لفتنةٍ صامتة تنخر ما تبقّى من نسيج الوطن، تحت أعين سلطة لا تملك من القرار إلا ما يُملى عليها.

 

باختصار، جلسة الثلاثاء ليست جلسة سيادية بل جلسة تسليم جماعي… تسليم للسلاح، تسليم للقرار، وتسليم لمستقبل دولة قررت أن تناقش كيف تخلع درعها، وهي لا تزال تتعرض للضرب والقصف والانتهاك الإسرائيلي يومياً. دولة تبحث عن سلاحها لا لتستعيده، بل لتتخلّص منه، وتقدّمه على طبق من بيانات وزارية منمّقة، وإجماع وطني مُعلّب، وابتسامة باهتة تُرضي الخارج، وتُغضب كل من تبقّى له إحساس بالكرامة.