| خضر رسلان | كاتب وإعلامي لبناني
في بيروت عام 2002، اجتمع العرب على ما سُمّي “المبادرة العربية للسلام”. مبادرة حملت توقيع الملك عبد الله آنذاك، وقدمت لإسرائيل ما لم تقدمه أي مبادرة في تاريخ الصراع: انسحاب كامل مقابل اعتراف كامل، تطبيع شامل مقابل إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967، عاصمتها القدس الشرقية، وحلّ عادل لقضية اللاجئين وفق القرار الأممي 194. قيل يومها إن العرب وضعوا الكرة في الملعب الإسرائيلي، وإن السلام أصبح ممكناً إذا توفرت الإرادة.
لكن سرعان ما ظهر أن الملعب محصّن بجدار الرفض الإسرائيلي. فمنذ ذلك الحين، لم يتزحزح نتنياهو ومن سبقوه عن مواقفهم: لا دولة فلسطينية، لا عودة لاجئين، لا انسحاب من القدس، ولا تنفيذ لأي قرار دولي. بل إن الكيان تجاوز حدود الرفض إلى الهجوم الوقح على كل قرارات الشرعية الدولية، بدءاً من 242 و338 وصولاً إلى 2334، وهي قرارات صادرة عن مجلس الأمن نفسه، يفترض أن تكون ملزمة.
أما الولايات المتحدة، الراعي المفترض للسلام، فقد تخلّت عن أي مظهر من مظاهر الحياد. فمن الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان، إلى شرعنة ضم الجولان السوري المحتل، وصولاً إلى مباركة خطط الضم في الضفة الغربية، وضعت واشنطن كل ثقلها إلى جانب الاحتلال، وأدارت ظهرها حتى لقراراتها السابقة. وهكذا تحولت الأمم المتحدة إلى شاهد زور، وأصبح القانون الدولي مجرّد ديكور في مسرح السياسة العالمية.
اليوم، يخرج نتنياهو ليكرّر بلا مواربة ما كان يردّده سراً وعلناً: لا سلاح لحماس، لا دولة فلسطينية، لا عودة أسرى إلا وفق شروطه. لا يخضع لأوباما ولا لبايدن ولا لأي رئيس أميركي أو أوروبي. بكلمة واحدة: هو لا يعترف إلا بمنطق القوة، ولا يرى للعرب وزناً إلا بقدر ما يملكون من أوراق ضغط حقيقية.
والمفارقة أن هذا الرفض المطلق ترافق مع واحدة من أبشع المراحل في الصراع، حيث ارتُكبت في غزة مجازر وصلت إلى مستوى الإبادة الجماعية على مرأى العالم. قُصفت البيوت فوق ساكنيها، حُوصرت المستشفيات، جاع الأطفال، ودفنت العائلات بأكملها تحت الركام. ومع ذلك، ظل الاحتلال يطالب العالم بتجريد المقاومة من سلاحها، وكأن المطلوب أن يستسلم الفلسطينيون ليُبادوا بصمت.
بعد كل هذا، يحق لنا أن نسأل: ماذا بقي للعرب كي يراهنوا عليه؟ هل ما زال هناك من يصدّق أوهام المفاوضات العقيمة التي لم تُثمر شيئاً منذ مدريد وأوسلو؟ هل ما زال هناك من يعوّل على التطبيع المجاني الذي لم يُنتج سوى مزيد من الغطرسة الصهيونية؟ هل من المنطق أن يظل بعض العرب يراهنون على عواصم غربية لم تعد ترى في فلسطين إلا ورقة للمساومة والتوظيف السياسي؟
أيها العرب، لقد سقطت كل الأقنعة. الاحتلال يقولها بالفم الملآن: لا انسحاب، لا دولة، لا حقوق. الولايات المتحدة تؤكد عملياً أنها شريك كامل في المشروع الصهيوني. والأمم المتحدة عاجزة حتى عن إدانة واضحة أو وقف إطلاق نار. أمام هذه الحقائق، ما البديل عن المقاومة؟ هل هناك خيار آخر غير أن يرفع الشعب الفلسطيني سلاحه دفاعاً عن أرضه ووجوده؟
إن المقاومة ليست مغامرة عاطفية ولا خياراً رومانسياً، بل هي نتيجة حتمية لغياب العدالة الدولية، وخيانة بعض الأنظمة، وصلف الاحتلال. هي الردّ الوحيد على مشروع الإلغاء الكامل لفلسطين، وهي اللغة الوحيدة التي يفهمها العدو.
ولهذا، لا مجال للمواقف الرمادية بعد اليوم. إمّا أن تقفوا مع المقاومة باعتبارها السد الأخير أمام مشروع التهويد والإبادة، أو أن تصمتوا صمت العاجزين. أما أن تُنتقد المقاومة وتُهاجم بينما يُستقبل المحتل في العواصم ويُفرش له البساط الأحمر، فتلك خيانة موصوفة للأمة والتاريخ. والتاريخ لا يرحم.