كتب الاستاذ علي خيرالله شريف:
كُلَّما اقتربنا من تاريخ ١٤ شباط، ذكرى استشهاد الرئيس رفيق الحريري، تكثر التحليلات والتأويلات والتوقعات، بما يشبه حفلات التنجيم على الشاشات. وبالأمس قرأتُ بَعضَ ما كتبه بَعضُهُم، يتوَقَّعون عودة الرئيس الأسبق سعد الحريري إلى الحياة السياسية.
الحياة السياسية في لبنان ليست قائمة على قواعد حقيقية تتمحور حول إدارة شؤون الناس وتأمين الخدمات لهم وتحقيق رفاهيتهم وتقدمهم وتطورهم نحو الأفضل، بل هي قائمة على مفاهيم التوريث والزعامة والقبلية والمذهبية والمحاصصة وغيرها.
هؤلاء الذين يهللون حبوراً وسروراً لعودة سعد الحريري إلى الحياة السياسية، ويُنَظِّرون لأهمية تلك العودة، لست أدري على ماذا يستندون في فرحتهم وأمنياتهم. مع العلم أن كل فترات تَبَوُّء سعد الحريري رئاسة الحكومة، لم نعرف منه إلا نغمة السفر المتواصل والتَغَنِّي بالاقتراض والاستدانة ومراكمة الأثقال على أكتاف اللبنانيين.
لسنا من هواة جلد الميت ولا نحملُ أحقاداً ضد أحد، ولكننا لا نستطيع أن نسكت أمام هذه المقالات التضليلية التي تُنشَرُ على صفحات الإعلام لتعيدنا إلى سابِقِ معاناتِنا مع سوء إدارة البلد. فبدل أن يسعى هؤلاء الكَتَبَة إلى نشر الوعي ووضع الأسس الصحيحة لبناء الدولة وتحقيق الإنماء المتوازن ونشر التربية الوطنية ومواصفات الحاكم الكفوء والعادل، نراهم يعيدون اجترار سردياتهم العاطفية والعصبية البليدة العقيمة التي تُرَوِّجُ للعودة إلى ما تحت الصفر في بناء الذهنية الوطنية السليمة.
كان لدى الرئيس رفيق الحريري مشروعاً للبنان البعضُ يسميه إنمائياً وعمرانياً، والبعض الآخر يصفه بالخطير المرتبط بعملية السلام الأميركي المزعوم وصفقة القرن. وبعد استشهاده أصبحنا في مرحلة الإرث الحريري المتمثل بما خَلَّفَهُ المرحوم فينا، من أولاده وإخوته والتابعين له من الأفراد والتكتلات، ومن الديون الباهظة التي ركبها علينا لمدة قرنٍ قادمٍ من الزمن. ولا ننكر ما أنجزه من جسور وإنشاءات عمرانية من الأموال التي استدانها على أسمائنا وأرواحنا، وأطلق على تلك الإنشاءات اسمَهَ الكريم وجَرَّدَها من كنيتها اللبنانية والبيروتية، من المطار إلى الجامعة إلى المستشفى إلى الشوارع والشواطئ، إلى غير ذلك من الردميات البحرية وغير البحرية.
أضف إلى ذلك استيلاء التابعين لتياره لغاية اليوم على أكثر الوزارات والإدارات، وكثرة الخلفاء له والاتجاهات المتناقضة والمتناحرة التي ما زالت تُسَبِّحُ باسمه وتندبه على الإعلام وتذرف عليه دموع التماسيح وتستثمر شهادته للشحن الطائفي والمذهبي ودس الفتن في لبنان، بناءً على تعليماتٍ خارجية متواصلة.
إن الذهنية التي يُحكَمُ بها لبنان قد تعيد سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة، وهذا لا يُستَغرَب ما دامت قد أعادت قبله نجيب ميقاتي معززا مكرماً، ولا يُستغرب أن تفاجئنا يوماً ما بإعادة فؤاد السنيورة صاحب الباع الطويلة في رهن لبنان لكل الجهات غير اللبنانية، وقد يُشَكِّلُ حكومةً يَضُمُّ فيها الوزراء الذين يُشَنِّفون آذاننا بالشتائم ليل نهار على الشاشات وعلى وسائل التواصل الاجتماعي والمنابر…
والمخزي في القصة أمران الأول أن عودة الحريري أو غيرِهِ مرهونة بأخذ الإذن من السعودية، بما يعني أن الرئيس سعد الحريري إن عاد سيكون أكثر انصياعاً لإرادة “مملكة الخير” بعد العزل التأديبي الذي فرضته عليه تلك المملكة في تدخُّلٍ سافرٍ في شؤون لبنان. “وَسَيبوسُ” دولتُه التوبة عن مخالفة أمرائها وملوكها وسفرائها، وستكون قرارات حكومته ممهورة بأختامِهم وربما مكتوبة بأقلامهم. والثاني أن أنصاره يفرضون آراءهم على أهل السنة ولا يسمحون لغيرهم اختيار من يمثلهم في الحكومة، مع أن الطائفة السنية الكريمة زاخرة برجالات الدولة وأصحاب التاريخ المشرف والكفاءة التي يُشهدُ لها، وأن أكثرية أهل السنة ليسوا من أنصار سعد الحريري والحريرية.